من التجزئة القطرية إلى التفتيت الطائفي
المشروعالأمريكي الذي حذرنا من الوقوع في شركه، والهادف إلى إعادة تشكيل الخارطة السياسية للوطن العربي، بصورة مغايرة تماما، وأكثر دراماتيكية للصياغة التي تحققت على الأرض، بموجب اتفاقيات سايكس- بيكو أثناء استعار الحرب العالمية الأولى، قد بدأ الآن يدخلحيز التنفيذ.
كانت اتفاقية سايكس- بيكو قد اعتمدت تقسيم المشرق العربي إلى وحدات قطرية، على أسس غيبت حقائق الجغرافيا والتاريخ، وإرادة الملاك الشرعيين للأرض. وكما أشرنا في حديث سابق بعنوان البلقنة ضد الأمة، فإن تلك الحدود جرى رسمها وفقا لمصالح الاستعمار التقليدي الذي كان سائدا آنذاك، وإن مصالحه قد اقتضت وجود قنابل موقوتة، داخل كل قطر، وعند أطرافه وفي محيطه، لاستخدامها عند الحاجة لتفجير الأوضاع الداخلية في البلدان العربية.
ومما لا شك فيه أن المشروع الصهيوني، كان هو الأعنف ضمن سلسلة مشاريع العدوان التي واجهتها الأمة العربية في القرن العشرين. وكانت هناك عدة نقاط في ذلك المشروع تجعله غير قابل تاريخيا للاستمرار، أهمها أنه يستند على أسطورة ترفضها الحقائق التاريخية، ولا تستقيم مع منطوق قيام الدول الحديثة وشرعة الأمم. وأنه يستند أيضا على تشجيع أو فرض هجرة اليهود من مختلف بقاع العالم إلى أرض فلسطين. وأتباع الديانة اليهودية في العالم أعدادهم محدودة جدا، ولا يمثلون سوى أقلية ضئيلة، وكثير منهم قد اندمجوا بالأوطان التي نشأوا فيها، ولا يجدون مبررا للهجرة من أوطانهم.
لقد بلغت الحركة الصهيونية أوج قوتها وجبروتها في استقدام اليهود من مختلف بقاع الأرض، ولم يعد هناك مخزون بشري منهم في دول العالم يمكن عن طريق التهديد أو الوعيد إقناعهم بالهجرة إلى فلسطين. إضافة إلى ذلك، فإن النمو المتزايد للشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة أصبح تهديدا ماثلا ليهودية الدولة الصهيونية. وكان هنري كيسينجر، مستشار الرئيس الأمريكي نيكسون لشؤون الأمن القومي ووزير خارجيته فيما بعد، قد طرح مباشرة إثر انتهاء حرب أكتوبر عام 1973م، شعار أن تكون “إسرائيل” ليست فقط الأقوى عسكريا بين المنظومة الإقليمية المحيطة، ولكن الأكبر أيضا. ولم يكن ذلك ممكنا في الواقع بالنسبة للكيان الصهيوني، رغم نزعته التوسعية والعدوانية. فذلك يقتضي موارد بشرية واقتصادية لاطاقة له بها، ومن غير الممكن توفرها. ومع ذلك بقيت فكرة الدولة الإقليمية الأكبر مشروعا استراتيجيا يشغل القادة الصهاينة والمتعاطفين مع مشروعهم.
كان وصول المحافظين الجدد إلى إدارة الحكم في الولايات المتحدة قد اتخذ منذ البداية نزوعا عدوانيا، أعاد بحدة طرح مسألة القوة الإقليمية الأكبر بالنسبة للكيان الصهيوني، وجاء الجواب واضحا. تفتيت الوطن العربي، والانتقال به من التجزئة القطرية إلى التفتيت الطائفي، واستثمار القنابل الموقوته التي خلفتها اتفاقية سايكس- بيكو والمعاهدات والاتفاقيات الأخرى التي قسم بموجبها الوطن العربي هي السبيل لتحقيق الحلم الصهيوني القديم في أن تكون إسرائيل هي القوة الأكبر إقليميا في عموم المنطقة.
وكان احتلال العراق هو البداية في المضي قدما باتجاه تحقيق هذا المشروع. وبموجبه جرى تدمير منهجي ومنظم للدولة العراقية الحديثة، والقضاء على مرتكزاتها، واستعيض عن ذلك بتشجيع قيام نظام قرو- وسطوي، يتكئ على انتماءات طائفية وإثنية، بدلا من قيام علاقات تعاقدية تستند على انتماء لوطن واحد ومصالح مشتركة. وبالقدر الذي تفشل فيه مشاريع الاحتلال الأمريكي لفرض هيمنته على أرض الرافدين، بسبب من الضربات الموجعة للمقاومة العراقية، بالقدر الذي يندفع فيه أكثر وأكثر باتجاه المضي قدما في تنفيذ مشروع التفتيت على أسس طائفية بغيضة.
وينبغي الإقرار أن اللوحة الفسيفسائية التي صنعت العراق، والتي كانت مصدر قوته وخصبه عبر تاريخه الطويل، قد أصبحت الآن، في ظل ظروف الاحتلال عبئا على وحدته، وكانت في واقع الأمر عقب إيخل الذي مكن الأمريكيين من المضي في تنفيذ سياستهم التفتيتية. كما أن كون العراق يقع على الحدود الشرقية والشمالية للوطن العربي، قد جعله محاطا بدولتين إسلاميتين، غير عربيتين، هما تركيا وإيران. وفي أوج قوة السلطنة العثمانية، وبروز نجم إسماعيل الصفوي في إيران أصبح العراق مركزا للصراع والتنافس بين القطبين الإقليميين الرئيسيين. واستخدم السلاح الطائفي تبريرا في ذلك التنافس، وأصبح العراق ساحة يتحارب فوقها، ومن أجل الاستيلاء عليها الجيشان العثماني والصفوي.
وكانت حقائق الجغرافيا، وبعض من المواريث الدينية والتاريخية قد خدمت كثيرا إيران الصفوية، رغم أن العثمانيين سيطروا طويلا على العراق، حتى تمت هزيمتهم في الحرب العالمية الأولى.
ضمن حقائق الجغرافيا أن غالبية سكان الجنوب التركي والشمال العراقي هم من الأكراد، الذين شكلوا حاجزا بشريا بين العرب والترك. وكانت لهم صبوات في الاستقلال عن كل من تركيا والعراق. ولا شك أن وجود هذا الحاجز قد حد من التفاعل أو التشابك بين العراقيين والأتراك، وجعل العلاقة بينهما، لفترة طويلة، بعد الاستقلال محيدة إلى حد كبير. ولم تكن هناك نزاعات حدودية معلنة بين البلدين، اللهم إلا بعض الادعاءات التركية التي تنشط أحيانا، وتبهت في الغالب حول مدينة الموصل، وهي ادعاءات لم تصل أبدا إلى مستوى خلق مشكلة دبلوماسية حادة بين البلدين على أية حال. إضافة إلى ذلك، فإن التاريخ التركي هو حديث بالمقارنة بينه وبين إيران التي يغوص تاريخها إلى آلاف السنين في القدم، ولا يحمل في مواريثه صراعا مرا مع الحضارة العربية الإسلامية، ولا مع الفتوحات التي قادها رسل هذه الحضارة، والتي كان من بين نتائجها القضاء على الدولة الساسانية، ودخول إيران في دار الإسلام عنوة.
على النقيض من ذلك، تواجه إيران الشريط الحدودي العراقي من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب. وقد شاءت المقادير أن تقع غالبية المدن العراقية قريبا من الحدود مع إيران، بسبب وجود نهر دجلة قريبا من تلك الحدود. وذلك أمر طبيعي جدا، فحيث توجد المياه توجد الحياة. وكان طبيعيا أن يبني العراقيون القدماء مدنهم على ضفاف النهر. وهكذا بنيت المدن الرئيسية العراقية على ضفاف دجلة، قريبا جدا من الحدود الإيرانية. ومنذ الفتح العربي أصبح بعض تلك المدن مراكز لجيوش الفتح. وفي عهد أبي جعفر المنصور جرى تشييد مدينة بغداد، على ضفتي نهر دجلة، وأصبحت بغداد منذ ذلك الحين من أهم المدن العربية، وقبلة لطلاب العلم، وللباحثين عن فرص في مدينة السلام، وحاضرة العرب الأولى. وكان معظم السكان في الوسط والجنوب العراقي هم من العرب الذين آمنوا برسالة الإسلام، واقتحموا بجيوشهم شرقا أمم الأرض حيث مشيئة الله، حتى بلاد السند.
وكان من الطبيعي، نظرا لقرب المدن الحدودية العراقية من إيران، وأيضا بسبب هيمنة الوجود العربي في الوسط والجنوب أن يتحقق تفاعل حضاري بين العرب والفرس، ترك بصماته واضحة في الأدب والفكر، وأن يستمر التشابك والتنافس بين القوميتين، بسبب جملة من المواريث التي عبرت عن نفسها في حركات شعوبية، وصراعات متكررة أثناء الحقبة العباسية منذ بداياتها حتى سقوط بغداد علي يد التتار. وقد برز شعراء عرب وفرس عكسوا هذه الحقيقة في جملة من قصائدهم. وكان أبو عثمان الجاحظ جريئا في كتابه البيان والتبيين في فضح أدوار الحركة الشعوبية ضد دولة الخلافة العربية. وإذا كان التاريخ كما يقول المؤرخ البريطاني، أرنولد توينبي هو أحد المقومات الرئيسية للأمم، باعتباره يمثل مخزونها الحضاري الذي تستمد منه قانون استجابتها وردة فعلها تجاه التحديات التي تواجهها، فإن التاريخ بمختلف عناصره، كان حاضرا في العصر الحديث، مساهما في توجيه بوصلة العلاقة بين العراق وإيران، التي كانت في الغالب طردية منذ الاستقلال حتى يومنا هذا.
كان الأمريكيون، قد وضعوا بدقة نصب أعينهم هذه الدروس، وهم يضعون لمساتهم الأخيرة على مشروع احتلال العراق وتفتيته، ومن ثم الانتقال إلى بقية البلدان العربية. وكانت الاستجابة الإيرانية، من قبل في أفغانستان، عند الإطاحة بحكم طالبان، قد أكدت إمكانية قيام علاقة تكاملية بين إيران والإدارة الأمريكية في مشروع غزو العراق، وتحييد كل الصراعات الأخرى، إلى أجل آخر. وقد شجع الأمريكيين على ذلك، ترحيب القادة الإيرانيين بالقضاء على الدولة العراقية، وإدراكهم أن مستلزمات الغزو والتدمير تتطلب ميليشيات محلية وأفراداً قادرين على تنفيذ ما هو مطلوب، وكانت تلك الميليشيات جاهزة وجرى إعدادها في العقدين الأخيرين من قبل الإيرانيين، من عناصر حزب الدعوة والمجلس الأعلى للثورة الإسلامية، ولم يتبق أمام العقب الحديدية سوى فرض سطوتها وجبروتها، وكان ذلك هو ما تحقق فعلا على الأرض.
ما علاقة ذلك بما يجري الآن من سعي أمريكي حثيث للقضاء على الدولة القطرية، واستبدالها بمشروع تفتيتي طائفي؟ ذلك ما سوف نحاول الإجابة عنه في الحديث القادم بإذن الله
اضف تعليق
اسمك بريدك الالكتروني
تعليقك:
تعليقات
* تعليق #1 (ارسل بواسطة هاشم حميد الخالدي)
الا ترى ان سياسة التفتيت الجاريه سوف لا تخدم الا مصلحة ايران فهذه استراتيجية بوش الجديده اعلنهاهي تصر على نفس النهج كيف يتحقق للامريكان الانتفاع وكل شيئ يصب في صالح ايران وطموح الامبراطوريه الاسلاميه الشيعيه هل ان الامريكان لا يرون المستنقع ولماذا الاصرار على خطط تبقيهم غير قادرين عن الخروج من المستنقع كيف نفسر ذلك اليس هذا مستنقع كبير…لن تخرج ادارة الولايات المتحده الامريكيه من المستنقع الذي وقعت فيه واوقعت العراققين فيه ايضا..لن تخرج بخطتها الاستراتيجيه الجديده القديمه هذه ما دامت مصره على خداع نفسها والاخرين بان ما تواجهه قواتها في العراق هو ارهاب من خارج الحدود..اي من القاعده حسب ما تدعي وليس مقاومة جزء مهم يتسع دوما من العراقيون بدء من المنطقه الغربيه والوسط وشمال الوسط فهي مقاومه حقيقيه حتى لو ادعى البعض انه دفاع اناس عن امتيازات كانت لهم في العهد السابق والعهود الماضيه اليس من حق الناس الدفاع عن اموالهم ومواقعهم وارواحهم وما العيب في ذلك, لو ان موجة الاجتياح لهم وطنيه ولغاية نبيله تهدف الى ازالة التمييز المناطقي الذي نشأ لاسباب جيوبوليتيكيه لكانت مقاومتهم باغيه اما ان تاتي باحتلال اجنبي امبريالي قسري يحمل اجندات الهيمنه والاستعمار فان مقاومتهم هي مقاومه وطنيه بدون ادنى شك فاذن ادعاء الاداره الامريكيه ادعاء باطل ومخادع, فضلا بانها ما دمت تخدع نفسها بان السياسين الطائفيين بالدين والمذهب الذين جائت بهم والذين تربعوا على عرش الحكم والنفوذ بانتخابات مصنوعه ومعده في توقيت زمني وحدود مكانيه وكيفيه وقدر, بفعل زخم ازاحات الاحتلال وهدمه واجتثاثاته بكل ما اوتي من قوه , سوف يكفون عن ولائهم الى ايران ويعطونها الولاء بدلا من ايران… لن يكفوا فولائهم الى ايران اكبر من ولائهم الى وطنهم الذي اواهم واطعمهم ففضلوا سابقا التشرد والتسكع على ان يكفوا عن ولاء ايران ضد وطنهم في صراعه معها وان الاداره الامريكيه سيد العارفين بطموحات ايران ونظرتها للعرب والعراق سواء في ظل حكم الشاه ام في ظل حكم خميني,قد تعتقد حضرة الاداره الامريكيه بان سيادة حكومه ذات نزعة مذهبيه شيعيه في العراق سوف يفتح الباب الى تشكيل حكومات شيعيه في بلدان او اجزاء من بلدان عربيه يجعل العرب في حالة استقطاب طائفي دائم وبالتالي في حاله ابلغ من الضعف والتشرذم وقد يكون رؤياها هذه صحيحه ولكن سوف لن تجني دولتهم الامبراطوريه الا الخيبه حيث سيكون الاستقطاب ايراني,و لن تقدر عليه الاداره الامريكيه ولن تقدرعليه اقطاب عربيه ضعيفه ..اقطاب لن تخدم الامريكان حتى لو توحدت, وسوف تخرج امبراطورية الولايات المتحده الامريكيه مهزومه مدحوره فلا هي منتفعه ولا دويلات العرب منتفعين ولا عرب ايران الجدد حيث سيكونوا مستضعفين في ارضهم وان المنتفع الوحيد ستكون ايران وقد تدخل اسرائيل حلبة الصراع بالقوه الغربيه كما تفعل الان الا انها لن تقدر ان تحتوي من المنطقه شيئا الا بالسيطره الاستعماريه الاستيطانيه وبازاحة و بابادة العنصر العربي ولو على مراحل
* تعليق #2 (ارسل بواسطة علي الكاش/ كاتب عراق)
في الحقيقة استاذ مكي مهما حاول الاعلام الامريكي والايراني ان يطمرا مصالحهما المشتركة ان الامر ادعى للكشف فقد خدمت الولايات المتحدة ايران خدمة لاتقدر من خلال تدمير اثنين من اخطر جيرانا الذين يشكلون خطرا على توسعها الاقليمي والايدلوجي وهم العراق وافغانستان؟ وبفضل هذه الخطوة الامريكية اصبحت ايران اكبر قوة في الشرق الاوسط؟ واود ان اضيف الى مقالك الشيق بأن آخر الاحصائيات تشير الى ان اكبر شريت تجاري لايرن هي الولايات المتحدة لامريكية التي تستورد 0% من النط الايراني.. مع التقدير
* تعليق #3 (ارسل بواسطة علي الكاش/ كاتب عراقي)
: في الحقيقة استاذ مكي مهما حاول الاعلام الامريكي والايراني ان يطمرا مصالحهما المشتركة ان الامر ادعى للكشف فقد خدمت الولايات المتحدة ايران خدمة لاتقدر من خلال تدمير اثنين من اخطر جيرانها الذين يشكلون خطرا على توسعها الاقليمي والايدلوجي وهم العراق وافغانستان؟ وبفضل هذه الخطوة الامريكية اصبحت ايران اكبر قوة في الشرق الاوسط؟ واود ان اضيف الى مقالك الشيق بأن آخر الاحصائيات تشير الى ان اكبر شريت تجاري لايرن هي الولايات المتحدة لامريكية التي تستورد 80% من النط الايراني كما ان ازمة الملف النووي خفت وطأتها وهي ليست سوى زوبعة في فنجان وحتى التهديدات الامريكية الاخيرة لايران حسب خطة بوش الجديدة فأنها اشبه ما تكون بالضحك على الذقون طبعا ذقون العرب.. مع التقدير