من الاستشراق إلى العولمة
من الإستشراق إلى العولمة، هو العنوان الذي اختارته جمعية بيروت للتراث ليتصدر مؤتمرها السنوي لهذا العام، والذي انعقد في 29- 30 أيلول/ سبتمبر. وقد كان لي شرف المشاركة في هذا المؤتمر وتقديم ورقة رصدت مظاهر الحركة الإستشراقية في الوطن العربي فيما بين الحربين العالميتين.
والواقع أن الإستشراق والعولمة هما وجهان لعملة واحدة هي المركزية الأوروبية التي مثلث المقدمة لهيمنة الغرب على العالم، ومن ضمنه الوطن العربي. ومع ذلك، فإن من الضروري التمييز بينهما كمصطلحين. فالأولى كانت نتاجا للاستعمار الغربي التقليدي الذي بدأت طلائعه منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، والذي بدأ زحفا برتغاليا وانتهي إلى احتلال فرنسي بريطاني وإيطالي، وإلى المباشرة في تنفيذ المشروع الصهيوني الذي عبر عنه وعد بلفور. أما العولمة فهي ظاهرة حديثة جدا، بدأت مع انتهاء الحرب الباردة وتربع الولايات المتحدة الأمريكية على عرش الهيمنة العالمية، وانتهاء عهد تعدد الأقطاب.
كانت الأولى محاولة للكشف، وقد تمثلها في كثير من الحالات أفراد عرفوا بولعهم وعطشهم للعلم، بحيث امتزج جموح الهيمنة مع عشق للكشف، بلغ حد التماهي الصوفي لدى بعض المستشرقين مع الثقافة العربية الإسلامية. أما في العولمة، فليس من ضمن أهدافها القيام بالحفريات للكشف عن الآثار ولا قراءة أو مراجعة كتب التاريخ، ولا التعامل مع البشر والجغرافيا إلا باعتبارها ثروات وإمكانية ليست عصية على السطو وقابلة للإخضاع. ولذلك فليس في العولمة مكان للعمل والمبادرات الفردية. إنها عمل مؤسساتي تضطلع به منظمات وصناديق ومحطات فضائية وأجهزة اتصالات، وتمارس فيه صواريخ كروز وطائرات الـ بي 52 والشبح والقنابل السجادية والعنقودية دورا رئيسيا في عملية الترويض.
وعلى هذا الأساس نرى أن الإستشراق، رغم أنه في جذوره لم يكن يتم لغايات نبيلة، ورغم أنه لم يكن حياديا ونزيها، فإنه تميز بثراء وزخم ثقافي وأنجز الكثير من الكشف عن مجاهل الشرق، متأثرا بسحره ووهج ماضيه الحضاري ، مساهما عن طريق ذلك في تشكيل العقل والرؤية الثقافية الغربية تجاه هذا الجزء من العالم. وقد ساعد ذلك كثيرا على تحقيق عملية الإختراق الإستعماري للمنطقة العربية التي تواصلت بوضوح حتى الخمسينيات من القرن المنصرم
وبعيدا عن الإستغراق في تحديد المفاهيم، رغم أهميتها، فإن كلمة الاستشراق تشير إلى علاقة بالشرق، غير أنها كمصطلح كانت دائما فضفاضة وغير مرتبطة بزمان أو مكان. إنها كما يبدو، تشير إلى أن دراسة الشرق ومعرفته وفهمه هي الجامع المشترك لكل الآراء التي ناقشت وتتبعت الظاهرة ومعطياتها ومجالاتها. وقد عرف قاموس اكسفورد المستشرق بأنه الذي يتبحر في لغات الشرق وآدابه وعلومه. إن وضع هذه الظاهرة في إطارها العام من الصراع الكائن بين الشرقي والغربي هو الذي يجعل وعيها عملية سهلة. فالخطابات/ بشكل عام، هى تعبير عن الجهه التى تطلقها او تصدر عنها. فكما أن الخطابات العربيه الاسلاميه هي تعبير عن رؤية العرب والمسلمين، فإن الخطابات الاستشراقيه تعبير عن الموقف الغربي وعن مصالحه وامتيازاته. لكن ذلك يضعنا إزاء قضية أخرى ينبغي التنبه لها، هي العلاقة بين الأنا والآخر.
إن المجتمعات الإنسانية ليست كما يبدو على السطح كتلا هلامية، لكنها أيضا، ليست كتلا صماء. إن التقسيم الحاد لـ “الأنا” الذي هو موضوع الاستشراق و “الآخر” المتمثل في المستشرقين، يفترض في منطلقاته تجانس كل قطب من أقطاب المعادلة على حدة، وتنافر هذا القطب مع الآخر. وهذا في واقع الأمر فصل تعسفي ينقصه الوعي بوجود تناقضات ومصالح وتوجهات مختلفة في المجتمع الواحد، وأن الأمر لا يمكن وضعه في كفة ميزان واحدة عند كل طرف.
وقد أشار الأستاذ هاشم صالح في مقدمة كتابه الإستشراق، إلى أنه على الرغم من القواسم المشتركة بين مختلف الخطابات الاستشراقية إلا أن من غير الممكن إهمال الفروقات الكائنة بينها، رغم أنها جميعا تدافع عن المنهجية الغربية، وتدعو إلى تطبيقها على التراث الإسلامي. ومع ذلك فإنها تختلف عن بعضها البعض. فمنهجية رودنسون ذات تلوين اجتماعي، أكثر من منهجية بيرنارد لويس التي تنتمي إلى تاريخ الأفكار التقليدي، الذي ساد بالغرب منذ القرن التاسع عشر، والذي لا يعنى كثيرا بالمشرطية الإجتماعية الاقتصادية للموضوع المدروس، وإنما يدرس الأفكار وكأنها ذات كيان مستقل. وكذلك منهجية كلود كاهين، فهي تولي أهمية للعوامل الإجتماعية والإقتصادية أكثر من منهجية فرانسيسكو جابريالي، أو وليام كانت ويل سميث، وهذا الفرق مهم ولا يمكن الاستهانة به. ويلاحظ أن الجيل الذي برز فيما بين الحربين يميل إلى استخدام أحدث المنهجيات والمصطلحات والإستشهاد بأسماء المفكرين الطليعيين.
وبالمثل، فإن الإختلافات السائدة بين المستشرقين الغربيين لها ما يعادلها في خطابات المثقفين العرب. فالمواقف إزاء الأستشراق ليست كتلة واحدة منسجمة، وإنما هي مشكلة من عدة اتجاهات متغايرة متنوعة ومتناقضة. وهكذا فالمجتمعات الإنسانية تتفاعل مع ما يجري حولها، وتحدد مواقفها، ليس بالضرورة على أسس الوعي والمعرفة والإلتزام الأخلاقي، ولكن ضمن اعتبارات المصالح، وهي اعتبارات أكثر وجاهة وتقديرا في عرف المنتفعين وأصحاب رؤوس الأموال، والحكومات التي ترعى مصالحهم.
وهذا القول عن “الآخر”، ينسحب أيضا على “الآنا” فهذا –الأنا- ليس مجتمعا ساكنا أو منسجما، ولا يعيش خارج التاريخ. إنه في القلب من هذا العالم يتأثر به ويؤثر فيه، وتحكم العلاقات بين أفراده وطبقاته قوانين الوحدة والتنافر، وهو أيضا خاضع لصراع المصالح واختلاف الرؤى، داخل كل قطر. وهو بالإضافة إلى ذلك، يعيش واقعا مجزءا، فرضته طبيعة المواجهة مع المحتل، ورسم الخرائط بين المنتصرين. وقد أصبحت الدولة القطرية مع مرور الأيام واقعا معترفا به، ومقبولا من قبل شرائح اجتماعية مؤثرة، بما يعني أننا أمام أكثر من أنا وأكثر من آخر. والأنا العربي قد تناقض بعضه مع بعضه الآخر في مواقفه، بشكل أصبح معه متعذرا الحديث عن موقف واحد وأنا واحدة. وقد تعاظمت الشروخ وتعددت المنافذ، وتضاربت المصالح بشكل دراماتيكي في العقود الأخيرة المنصرمة، واستمرت بشكل متصاعد، في البنيان الإجتماعي الواحد. أصبح الآخر، إن في صيغة استعمار واحتلال أو في صيغة استشراق/ يهيمن في القلب من الأنا، ويجد خطوطا عدة تدافع عنه… وتتصدى له هنا وهناك مقاومة، تتواجد أيضا في القلب وفي الاطراف، وهناك في العواصم والمدن الرئيسية للآخر.
ولذلك، فإن الفصل بين ما هو إنساني على أساس اعتبارات الأنا والآخر لم يعد ممكنا، وأن الأمر الذي يجب أن نواجهه، في عملية الإبداع والفن والكتابة هو أننا لسنا قطبا واحدا في مواجهة قطب آخر، بل أن المواجهة هي في داخلنا وضمن شرائحنا، كما هي مواجهة في قلب الآخر وضمن شرائحه. ومن هنا يجب التمييز بين ما هو إنساني وقائم على أساس الإعتراف بالمصالح والتفاعل بين الشعوب، سواء صدر عنا أو صدر عن مبدعين وعلماء وفنانين فيما يمكن أن نطلق عليه بالإستشراق، وبين رفض الإحتلال والإستغلال بكافة شرائحه ومكوناته وأصوله وجنسياته.
ملاحظة أخرى في هذا الإتجاه، هي أن قراءاتنا المستمرة عن الاستشراق قد اتخذت طابع الهروب إلى الأمام. فنحن أمام تغييب حرية الفكر ومصادرة الرأي والرأي الآخر، وأمام حالة الإستبداد وعجزنا عن مواجهة تلك الحالة، فإن النخب العربية أخذت تبحث عن مشجب تعلق عليه أسباب فشلها ونكوصها وانكفائها، بدلا من أن تقتحم هي وتتقدم إلى الأمام وتلعب الدور الذي يفترض فيها أن تمارسه. لقد كانت نخبا عاجزة حقا، في مواجهة الاستعمار وأدواته أثناء هجمته فيما بين الحربين العالميتين، ولم تقدم مشاريع بديلة. كانت تنتظر من الآخر أن يتحمل مسئوليتها التاريخية بالنيابة، وحين يقدم هذا الآخر مشاريعه التي تنسجم مع مصالحه نصاب بحالة غضب وإحباط، ونمارس ردة الفعل بدلا من الفعل. وهكذا كانت أدبياتنا مرثيات وبكاء على الأطلال، وسخط على الآخر، بدلا من أن تكون استشرافا للمستقبل ورسما لاستراتيجيات جديدة لمقاومة التغريب.
إن الحديث عن الإستشراق وأهمية الإنفتاح على أدبياته وعطاءاته، والإستمرار في المطالبة برفع وتيرة تفعيل الحوار مع “الآخر” يطرح مشروعية أخرى لا تقل وجاهة، ولها أرجحية مؤكدة عليه، هي حوار “الأنا”. كيف يمكن في ظل انعدام الإعتراف بالتعددية واحترام الرأي الآخر، وتغييب مؤسسات المجتمع المدني أن يتحقق حوار متعادل ومتكافيء مع الذات، ننطلق منه في حوارنا مع الآخر. لقد كنا في المجتمعات القبلية والعشائرية نملك أدواتنا الخاصة لمثل هذا الحوار، المنطلق من وعي المرحلة التاريخية التي كنا نحياها، لقد تراجعت القبيلة في ظل نمو مشوه للإقتصاد وضعف التشكيلات الإجتماعية العربية، مما عطل من النمو السياسي والإجتماعي والإقتصادي على كل الأصعدة، فهل من المنطق أن نتكلم عن الاستشراق والعولمة وعيوبهما، وعن أهمية الحوار مع العناصر الفاعلة مع الآخر، دون أن نصلح بيتنا، ودون أن يتعمق الحوار في الداخل مع الأنا.. ثم ننطلق محصنين إلى الآخر. وكيف يتحقق مثل هذا الحوار، ذلك هو السؤال..
بقي أن نشير إلى أن الحديث عن العولمة هو الآخر ذو شجون، وبحاجة لمتسع من المكان والوقت، ولذلك لا بد من إن نسدل الستار إلى حين، على أمل أن نعاود الحديث عن هذا الموضوع في أحاديث قادمة بإذن الله.
د. يوسف مكي
تاريخ الماده:- 2004-10-06
التعليقات
2000-00–0 0-:00
هواري بوحميدي من الجزائر
بسم الله الرحمان الرحيم
انا طاتب جامعي (عتم الإجتماع اتسياسي)
إنه والله لموضوع هام في حياتنا العامة لدرجة اني ساختاره كمدكرة تخرج السنة المقبلة
فهو يمزج بين موضوعين احدهما قديم والاخلا حديث وكلاهما خطيرين