من أكتوبر إلى أوسلو: انفصال المقاومة عن السياسة
احتفل العرب في مطلع هذا الأسبوع، بالذكرى التاسعة والثلاثين لحرب أكتوبر المجيدة، حيث تمكنت الجيوش العربية، من هزيمة أسطورة الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر. لقد اندفع الجيش المصري البطل بقوة، إلى شرق السويس، وحطم خط بارليف. وبالمثل عبر الجيش السوري إلى مرتفعات الجولان،
وضربت المدفعية السورية طبريا وسهل الحولة. ورغم تمكن الإسرائيليين في الأيام الأخيرة من الحرب من استعادة زمام المبادرة على الجبهتين، فإن العرب أثبتوا قدرتهم على القتال، والمبادرة.
تأتي هذه المناسبة، بعد مرور مناسبتين، لهما علاقة مباشرة بالقضية الفلسطينية، وبجدل صراع الوجود، المحتدم منذ ما يقرب من القرن، بين العرب والصهاينة، والذي تمثل فلسطين ركنه الأساس. فقد مرت علينا قبل عدة أسابيع مناسبة مرور ثلاثون عاما على غزو بيروت عام 1982، حيث أجبرت المقاومة الفلسطينية على الرحيل، عن العاصمة اللبنانية، وتوزعت في عدد من البلدان العربية، ليصبح مستعصيا بعدها مواصلة الكفاح المسلح ضد الصهاينة. وشهدت الأسابيع الأخيرة أيضا، مرور تسعة عشر عاما على توقيع اتفاقية أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية والكيان الصهيوني.
لم نتمكن، للأسف من تقديم قراءة تحليلية لهذه الأحداث في الأيام التي مضت بسبب متابعتنا لحملة الانتخابات الرئاسية الأمريكية، والهجمة الإعلامية الظالمة على الإسلام والمسلمين، والاحتجاجات التي عمت العالم الإسلامي، رفضا للفلم الأمريكي، المسيء للرسول الأعظم.
ولاشك أن متابعة هذه المناسبات: معركة العبور، والغزو الإسرائيلي لبيروت، وتوقيع اتفاقية أوسلو، بحاجة لتحليل مكثف، لن يكون بمقدورنا تناوله في هذا الحديث، لكن ما لا يدرك جله، لا يترك كله. سوف نكتفي في هذه القراءة بالتعرض لأهم المحطات في هذه المناسبات الثلاث، وتأثيرها على مجرى الصراع مع العدو.
في قراءاتنا لمعركة العبور، تحضر مقاربة لا مفر منها بين نتائج حرب يونيو عام 1967م، التي انتهت بنكسة تمكن فيها الكيان الصهيوني من مضاعفة مساحة الأراضي العربية التي استولى عليها إلى أكثر من ثلاثة أضعاف. ورغم النتائج الكارثية لهذه الحرب، فإن العرب خرجوا في القمة العربية التي عقدت بالخرطوم بعد أسابيع قليلة من النكسة، بلاءات شهيرة، أكدت رفض المفاوضات والاعتراف والصلح بالكيان الصهيوني. فشل السلاح في هذه المعركة، وانتصرت السياسة. وكان للتوافق السعودي المصري في مؤتمر الخرطوم الدور الأساس في التماسك العربي، وإعادة بناء القوة العسكرية العربية لإزالة آثار العدوان.
في الصورة الأخرى، يثبت المقاتل العربي، قدرته على الإمساك بزمام المبادرة، ويقتحم الحصون، ويدمر خطوط العدو وينجز انتصارات باهرة، على الجبهتين المصرية والسورية. ويلعب النفط العربي، بشكل مباشر، ولأول مرة في تاريخ الصراع، دورا تضامنيا وحاسما، اعترف به الصديق والعدو، ومع ذلك يتراجع دور السلاح، أمام السياسة، ويكون للأخيرة الحط الأوفى في تقرير مصير المنطقة.
يتحقق فصل قوات بين الجيشين المصري والإسرائيلي، على الجبهة المصرية، ويتبعه فصل آخر للقوات، مماثل على الجبهة السورية، ثم فصل ثان للقوات على الجبهة المصرية. يتم ذلك كله بمسعى حثيث من مستشار الرئيس نيكسون لشؤون الأمن القومي، هنري كيسنجر، الذي عرف برحلاته المكوكية إلى المنطقة، وبخطته لحل أزمة الشرق الأوسط المعروفة، بسياسة الخطوة خطوة، كمرحلة أولى قبل انعقاد مؤتمر دولي للسلام، ترعاه الإدارة الأمريكية والإتحاد السوفييتي السابق، ويشارك فيه كل أطراف الصراع.
يسيل لعاب القيادات الفلسطينية، للمشارك في المؤتمر الدولي، ويعقدون اجتماعات مكثفة، يخلصون بعدها إلى سياسة القبول بالممكن، ويعتبرون ذلك استجابة منطقية لشعار خذ وطالب، فيبدأ الحديث عن دولة فلسطينية، تقام على الأراضي التي احتلتها إسرائيل أثناء حرب يونيو 1967م، والتي يتم تحريرها إما عن طريق القوة المسلحة، أو من خلال مفاوضات سياسية مباشرة مع العدو الصهيوني.
لكن الانتقال الحقيقي، لغلبة السياسة على المقاومة، أخذ مكانه بعد احتلال العاصمة اللبنانية بيروت من قبل الجيش الإسرائيلي في صيف 1982. فقد أحدث ذلك الغزو تغيرا كبيرا في خارطة النضال الفلسطيني، ونقل مركز جاذبيته من الشتات، حيث الحلم الفلسطيني في التحرير، كليا وشاملا، للأرض الفلسطينية من البحر إلى البحر، إلى الأراضي التي احتلتها إسرائيل في عدوانها على العرب عام 1967، وتحديدا الضفة الغربية وقطاع غزة، حيث هدف التحرير يقتصر على استعادة تلك الأراضي وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة فوقها.
هل كان الانتقال في أهداف واستراتيجيات منظمة التحرير الفلسطينية، بعد مغادرة قوات المقاومة للعاصمة بيروت، هو تعبير عن إخفاقات عسكرية فلسطينية أمام ضراوة الهجمات الإسرائيلية فحسب، أم أن له علاقة مباشرة، بانتقال مركز الجاذبية في الصراع الفلسطيني مع الصهاينة، من المخيمات الفلسطينية بالشتات، إلى الداخل الفلسطيني؟.
ذلك من وجهة نظرنا، أمر من الصعب ربطه بعامل واحد، وإهمال غيره من المحركات التي حرضت على هذا الانتقال. الثابت لدينا هو أن المخيمات الفلسطينية في الأردن وسوريا ولبنان شكلت العمود الفقري للمقاومة الفلسطينية، منذ انطلاقتها في منتصف الستينات من القرن المنصرم. لقد تشكلت قيادات حركة المقاومة الفلسطينية، من لاجئين أجبروا على البقاء في الشتات منذ نكبة فلسطين عام 1948م. وبطبيعة وجودهم خارج حدود فلسطين التاريخية، ونظرا للظروف الموضوعية التي أحاطت بالضفة الغربية وقطاع غزة، لم يكن منطقيا أن تكون تلك المناطق مراكز أساسية للعمل الفلسطيني المقاوم. فالضفة الغربية، لم تكن حتى حرب حزيران عام 1967م، أرضا محتلة، بل كانت جزءا من المملكة الأردنية الهاشمية، وقطاع غزة، كذلك لم يكن محتلا بل كان تحت سيطرة الإدارة المصرية.
لذلك فإن المنطقي هو توجه الكفاح الفلسطيني إلى الأراضي التي احتلها الصهاينة عام 1948م، وأسسوا عليها كيانهم الغاصب. وذلك يعني، في نتيجته أن المعنيين بشكل أساسي من الفلسطينيين، في الصراع مع الصهاينة، هم الذين شردوا من ديارهم، وفقدوا منازلهم ومزارعهم وممتلكاتهم، أما فلسطينيو الضفة والقطاع، فدورهم يقتصر على مناصرة أشقائهم الفلسطينيين في استرجاع حقوقهم.
لقد أرست هذه المقاربة بين موقفي الفلسطينيين بالشتات والداخل، خطوط استراتيجية منظمة التحرير للمرحلة التي أعقبت الرحيل عن بيروت. ما علاقة ذلك بموضوعنا هذا؟ وما هي الخطوط الرئيسية لهذه الاستراتيجية، وأين نقف الآن في صراعنا مع الصهاينة؟ ذلك ما سوف سنواصل قراءته في الحديث القادم بإذن الله تعاني.