من أجل حماية الوطن
حين نكرر الحديث عن أهمية فتح أبواب الحوار بين مختلف الأطياف والتوجهات بكافة أشكالها وتنوعاتها في مجتمعنا السعودي فإننا لا ننطلق في ذلك من ترف فكري أو مماحكة عقلية أو صورية، ولا حتى من مجرد الالتزام بموقف أخلاقي تجاه حقوق المواطنين في أن يكون لهم دور في صنع وصياغة القرارات المصيرية والأساسية المتعلقة بمعاشهم اليومي وحياتهم، رغم تقديرنا لأهمية ذلك، ولكن أيضا من مسلمات ومواقف أخرى لا تقل أهمية ووجاهة عنها.. إنها مسلمات ومواقف تتعلق بالذود عن حياض هذا الوطن الغالي والوقوف في وجه الرياح العاتية التي تعصف بالمنطقة، والدفاع عن وجوده ومستقبله.
فلقد أصبح واضحا بما لا يقبل الشك أو الجدل أن بلادنا تتعرض حاليا لتحديات وهجمات غير مسبوقة، وأنها غدت موضع استهداف في أمنها وسلامتها ووحدتها، من جهات مشبوهة عديدة، قد تختلف في أساليبها وتوجهاتها السياسية وفي نواياها وأهدافها وشعاراتها ويافطاتها المرفوعة، لكن الثابت أنها تلتقي جميعا، في حلف غير مقدس، حين يتعلق الأمر بالإساءة لأمن البلاد ووحدتها واستقرارها.
وحتى لا يكون كلامنا استطرادا في العموميات، نشير إلى أن هذه البلاد قد أصبحت منذ فترة، وبشكل خاص بعد حوادث 11 سبتمبر عام 2001 بالولايات المتحدة الأمريكية، موضع استهداف من قبل قوى متشددة دولية ومحلية، ممثلة على الصعيد الدولي في مجموعة من المؤسسات والأفراد الراعية للسياسات الصهيونية والعدوانية بحق الأمة العربية، والتي أضحت تشكل ثقلا رئيسيا في صناعة السياسة الخارجية الأمريكية، وقد وضعت بلادنا في أعلى قائمة الدول التي تناصبها العداء، موجهة للمملكة تهم التحريض على الإرهاب وتقديم الدعم لأفراده، أو قوى التطرف المحلية، التي بدأت فعليا منذ فترة ممارسة عمليات التفجير والتخريب، مهددة أمن البلاد واستقراره.
ومن الواضح أن الأسبوعين المنصرمين قد شهدا تصعيدا ملحوظا في هذه المواجهة، وهو تصعيد يجب التنبه واليقظة تجاهه. وعلى الرغم من التسليم بأهمية التزام الحذر والروية قبل إصدار التقييمات والأحكام في هذا الصدد، فإن ذلك ينبغي أن لا يؤثر على اتخاذ الخطوات اللازمة والضرورية للحفاظ على الوجود والآمال والأماني والحاضر والمستقبل.
ففي الداخل تم الإعلان عن اعتقال ستة عشر شخصا من العناصر المتشددة، كانت تخطط للقيام بأعمال تخريبية في البلاد، كما تم اكتشاف مخازن كبيرة للأسلحة لاستخدامها في أعمال التخريب من قبل تلك المجموعة. كما تمت مواجهة عسكرية بين رجال الأمن ومجموعة من المتشددين في منطقة القصيم أسفرت عن مقتل ستة أشخاص من المجموعة ومصرع اثنين من رجال الأمن، ولا يزال البحث مستمرا عن عناصر أخرى متورطة في القيام بأعمال تخريبية في البلاد.
تزامنت هذه الحوادث مع حملة إعلامية مسعورة ضد سياسات الدولة ومواقفها، يقودها اللوبي الصهيوني الأمريكي، شملت اتهامات من قبل أعضاء في الكونجرس الأمريكي بضلوع موظفين من السفارة السعودية بواشنطون في حوادث التفجير التي أخذت مكانها في نيويورك وواشنطن الحادي عشر من سبتمبر عام 2001. وقد جاءت هذه الاتهامات في معرض مناقشة التقرير الذي صدر حول التحقيقات في أحداث سبتمبر والتي ورد فيها اتهامات مغرضة ومباشرة للسفارة السعودية مبنية على تكهنات مضللة ونوايا سيئة. وقد شمل الجزء المتعلق بدور المملكة في تلك الحوادث من التقرير المذكور 28 صفحة. ورغم النفي السعودي الرسمي لتلك الاتهامات، فإن الحملات الإعلامية ضد المملكة ما زالت على أشدها.
وقد انضم الكيان الصهيوني إلى تلك الحملة، فنقلت صحيفة يديعوت أحرنوت العبرية عن مصدر أمني إسرائيلي قوله إن المملكة تمول حركة حماس بشكل كبير، وإن حوالي 60% من ميزانية الحركة يصلها من متبرعين وهيئات سعودية، مشيرا إلى أن هذه المبالغ تستخدم في شن عمليات عسكرية وفي مساعدات لأسر الشهداء الفلسطينيين.
جاءت جملة هذه التطورات في وقت عجزت فيه الإدارة الأمريكية عن إثبات وجود أي نوع من أسلحة الدمار الشامل داخل العراق، وهو المبرر الذي استخدمته تلك الإدارة ذريعة للعدوان على العراق. وقد جاء القول الفصل، عن الأسباب الحقيقية للاحتلال الأمريكي للعراق على لسان مستشار الرئيس جورج بوش حيث قال إنه جزء من استراتيجية طويلة المدى تنشر فيها الولايات المتحدة الأمريكية قيمها في العراق ومنطقة الشرق الأوسط، تماما كما حولت أوروبا في النصف الثاني من القرن العشرين. وطبقا لهذه الخطة، فإن الالتزام الأمريكي بخلق عراق أمريكي جديد إنما يهدف لاستخدامه منطلقا للتغيير في عموم المنطقة.. وعلى كل، فإن هذه التصريحات، على أهميتها، ليست جديدة حيث وردت تصريحات مماثلة لمسؤولين آخرين في الإدارة الأمريكية من ضمنهم نائب الرئيس الأمريكي ديك تشيني ومستشارة الرئيس لشؤون الأمن القومي، كونداليزا رايس ووزير الدفاع، دونالد رامسفيلد، ووزير الخارجية كولن باول. الجديد في الأمر هو الإفصاح عن النوايا الأمريكية بهذا الوضوح. وينتظر أن تركز إدارة الرئيس بوش في الأيام القادمة على هذا الجانب، وأن يتراجع الحديث عن أسلحة الدمار الشامل كأسباب حقيقية لاحتلال العراق، بعد أن عجزت الإدارة الأمريكية عن إثبات امتلاكه لتلك الأسلحة.
ومن الملاحظ أن هذه التداعيات قد تزامنت مع تصعيد أمريكي آخر، بحق ما أطلق عليه السلوك السوري، حيث أعرب الرئيس الأمريكي نفسه عن قلقه من ذلك السلوك محذرا من فرض عزلة إقليمية على النظام الحاكم في سوريا إذا لم يقم بقمع الفصائل الفلسطينية التي تشن هجمات على الكيان الصهيوني. كما تزامنت مع جملة من التصريحات العدائية بحق رئيس السلطة الفلسطينية السيد ياسر عرفات، إثر الفشل الذريع للمبادرة الأمريكية لتسوية الصراع بين الفلسطينيين والصهاينة والتي عرفت بخارطة الطريق.
إن أخذ جميع هذه التطورات بعين الاعتبار يعني في الحقيقة أننا في هذا الوطن، نمر بمنعطف صعب وامتحان تاريخي، وأن علينا أن نأخذ جملة التهديدات والتحديات التي تواجهنا بمنتهى الجدية.
إن علينا جميعا حكاما ومحكومين مسؤولية تاريخية وأخلاقية في حماية هذا الوطن والذود عن حياضه. وعلى الرغم من تقديرنا للمواقف الإيجابية التي التزمت بها القيادة السياسية في البلاد خلال الشهور القليلة المنصرمة، والتي تمثلت في استقبال سمو ولي العهد الأمير عبد الله بن عبد العزيز للمثقفين السعوديين وترحيبه بمذكرة الوثيقة، ومن ثم ترحيبه بمذكرة شركاء في الوطن، وانعقاد مؤتمر الحوار الوطني في العاصمة الرياض بتوجيه من سمو ولي العهد، وصدور أمر كريم بتأسيس مركز للحوار الوطني ومكافحة الإرهاب الفكري، وأخيرا استقبال النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع سمو الأمير سلطان بن عبد العزيز لنخبة من المثقفين السعوديين والحوار معهم حول مشروع الحوار الوطني والإصلاح السياسي، فإننا نرى أن الوقت يداهمنا، وأن جدية المخاطر التي تتعرض لها بلادنا تفرض علينا السير بخطوات ثابتة وراسخة، ولكنها في ذات الوقت يجب أن تكون متجانسة مع حجم التحديات التي تواجهنا الآن، ومتماهية مع السرعة التي تتداعى فيها وتيرة الأحداث.
إن الخفافيش التي تتحرك في الظلام ستواصل عملها ضد بلادنا، رغم كل الجهود التي يبذلها رجال الأمن لتحقيق الاستقرار في البلاد. والطريق الصحيح لمواجهتها والقضاء على فلولها هو أن يفرض عليها الانتقال إلى دائرة الضوء.. إلى الشمس.. وهي بالتأكيد لا تطيق ولا تتحمل تبعة هذا الانتقال. فهي أضعف من أن تواجه بأهدافها ومشاريعها وبرامجها قوانين التطور وروح العصر. وفي هذا الاتجاه، ينبغي التركيز على أهمية احترام الهوية الوطنية وترسيخ مبدأ المواطنة وسيادة مبدأ التسامح والارتفاع فوق الجراح، وأن يجري فتح النوافذ ليدخل منها الهواء الطلق. ولعل هذا الوقت هو الأفضل لتفعيل وثيقة الرؤية، وفتح الأبواب واسعة ومشرعة لانطلاق الحوار الوطني وتشجيع الاجتهاد واحترام التعددية والرأي والرأي الآخر. والتسليم بفكرة التنوع ضمن المجتمع والوطن الواحد. ويجب أن نركز في ثقافتنا وتربية أجيالنا الجديدة على مبدأ حب الوطن والدفاع عنه، وخلق جيل نقي وقوي يسمو فوق عوامل التشظي والتشرذم، ويتجاذب نحو العطاء والبناء والوحدة.
إن هذا الوطن، هو وطننا جميعا.. وهو السفينة التي نلوذ ونحتمي بها في لجة البحر، فإما أن تتضافر جهودنا من أجل تأمينها من الغرق، وحمايتها من العواصف التي تحدق بها، أو يكون نصيبنا جميعا، وبدون استثناء، التيه والضياع مع اندفاعة هذا الطوفان الجارف. وإذن أفلا يستحق الوطن كل تضحية نبذلها في سبيله؟!
د. يوسف مكي
تاريخ الماده:- 2003-08-07