من أجل إعادة الاعتبار للثقافة العربية
كالعادة في لقاءات الأصدقاء، تتشعب الأحاديث وننتقل من موضوع لآخر. في أحد اللقاءات الأخيرة، انتقل الحديث عن الأغنيات الهابطة، والأصوات النشاز، وتردي الحالة الثقافية بالمجتمع العربي، مقارنة بما هي عليه في عقود سابقة. وكيف عكس ذلك نفسه على المستوى الفني،
بشكل شامل. فلم نعد نشهد جديدا في إنتاج غنائي جميل وأداء فتان. كما لم يعد للمسرح العربي، حضوره الأخاذ الذي كان عليه، زمن نجيب الريحاني وعادل خيري والمدبولي، وغيرهم. تراجع دور الكتاب وقراؤه، وغابت حلقات الفكر. سادت الضحالة، بسبب تراجع منسوب القراءة، في المجتمع العربي، الذي بات من أقل شعوب العالم إقبالا على الكتاب.
أدليت بدولي في هذا النقاش، فتذكرت قول الشاعر العربي: نعيب زماننا والعيب فينا. إن نقد التشكل الثقافي الراهن، ومآلاته، لن يكون دقيقا، ما لم يبحث عن الأسباب. فالنتائج باتت مقررة، ولم يعد يجدي الحديث عنها. فما نتطلع له هو صياغة مستقبل ثقافي أفضل. لكن كيف؟!
يبدو أن تطور التقانة الراهن، في مجال الإعلام والفنون، شكل عبئا على الثقافة العربية، وإن إلى حين. فالثورات التي حدثت في مجال الإعلام والثقافة والاتصالات، كشفت عن مجالات هائلة، وعن خيارات مكثفة، أمام الناس. كنا في الخمسينيات والستينيات من القرن المنصرم، نعيش عالما مختلفا تماما، عما هو عليه الآن. كانت الوسائل محدودة جدا، لكن العطاء في مجال الثقافة كان أعمق وأكثف.
وربما تفسر هذه محدودية الوسائل آنذاك، محدودية الخيارات. فإذا استثنيا، التلفاز، الذي كان يستقبل بالكاد محطة واحدة، وفي ساعات محدودة تنتهي قبل منتصف الليل، فإن ما يتبقى هو المذياع. وكان في حينه، وفي حقبة النهوض القومي العربي يشكل العقول، وينقل لنا شروحا، عن تأميم قناة السويس، وعن العدوان الثلاثي الغاشم على مصر، عام 1958م، وعن معارك ثوار الجزائر، والصراع بين الشرق والغرب، وموقع الأمة العربية في هذا الصراع. وعن التدافع الملحمي في تلك الحقبة لحركات التحرر الوطني في القارات الثلاث: آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية.
وعلى مستوى الصحافة العربية: كان الالتزام بالمواقف القومية، هو الطابع العام لتلك الصحافة, وباستثناء محطة الـ بي بي سي، لم تكن هناك إذاعة أجنبية ناطقة باللغة العربية. وكانت تلك المحطة تستقطب مستمعيها، من خلال التركيز على الثقافة العربية، والفن الأصيل، ونشرات الأخبار والتحليلات السياسية، التي تدار بمهنية عالية.
خياراتنا كانت محدودة جدا، ولم تكن لدينا وسائل ترفيه، تغني عن الكتاب وعن الصحيفة والمذياع. وكانت تلك الحقبة، حقبة نجوم بامتياز. نجوم في السياسة، ونجوم في قادة حركات التحرر الوطني، نجوم في الفكر والأدب ونجوم في الفن، على كل الأصعدة. وطبيعي أن يفتتن الشباب بتلك النجوم، وأن يصبحوا مثلا أعلى للمفتتنين بهم. وكان ذلك في حقيقته، نوع من تشكيل الحقول، فرضته طبيعية تلك المرحلة.
الوضع مختلف تماما الآن، فلم نعد نسمع للمغنى، إلا مصحوبا بالصورة، وما صار يطلق عليه بالكليب. اختلط الصوت مع الصورة، وكثيرا ما تغلب صورة الفاتنة الغانية، على صوتها. فتحتل مكانا مرموقا في عالم الغناء، من غير مضمون. وليس من شك في أن غلبة الصورة على الصوت، هي من أسباب تردي المضمون.
وحل الانترنيت بجبروته، محدثا انقلابا كبيرا في حياتنا. تراجع معه دور الكتاب والمجلات والصحف. وأغلقت كثيرا من كبريات الصحف، مقارها بعد إفلاس، في حين حاولت بعضها الحفاظ على البقية الباقية من حضورها، فامتنعت عن النشر الورقي، واكتفت بالنشر الالكتروني. وبرزت مواقع الخدمة الاجتماعية، واتس وفيسبوك وتويتر، لتحتل مواقع في كل البيوت، وكل أجهزة الكمبيوتر والهواتف المحمولة.
حتى سلوكنا الاجتماعي، تغير هو الآخر، لم نعد في غالب الأحيان، في حالة للحديث المباشر مع بعضنا. وحتى حين يقدر لنا اللقاء، ينشغل كل منا بجهازه المحمول، وينطق بكلمة من هنا وهناك، بين فينة وأخرى، ثم ينفض السامر. لم يعد طرح المواضيع الثقافية والفكرية من أولوياتنا. وفي ذات الوقت هناك طرق قوي ومباشر على العقول، بما يحقق غسلها، وأضعاف مقاوماتها ونزع هوياتها. محطات كوميدية رخيصة، وقنوات خاصة للفيديو كليب، مع أغاني هابطة وأداء رخيص. وبرامج سياسية ضحلة، جعلت من التطبيع مع العدو الصهيوني، في قلب ثقافتنا. و السينمائية العربية الراهنة، تحولت إلى استنساخ باهت ومشوه، لأفلام غربية، أو أفلام عربية من الزمن الجميل.
تفسير هذا الواقع، يوضح أن ما كان لدينا سابقا، رغم محدوديته، كان يفعل فعلا عميقا في تشكيل الشخصية العربية، بشكل إيجابي، أما الخيارات المفتوحة، فإنها خلقت حالة من الانفلات، والافتتان، بالألوان الصارخة والزاهية، من غير جوهر أو معنى.
هذه الأوضاع، ترتب مسؤوليات جسيمة على صناع القرار العربي، وتحديدا أجهزة الثقافة والفنون والتربية والإعلام. ليس بالإمكان إعادة عقارب الساعة، فذلك ما لا ينسجم مع قوانين العصر، أو حركة التاريخ، وما تحقق هو منجز إنساني كبير، ينبغي استثماره بالطريق الصحيح.
لماذا لا تنشئ تلك الأجهزة، مهرجانات خاصة بالكتاب، ليس بمعنى المعارض، ولكن بمعنى حضور الكتاب. من خلال مسابقات في المدارس بكل مراحلها، تستهدف القراء والكتاب على السواء. ولماذا لا تقنن الفنون، فتجري مراكز تحكيم للأداء، ولا يسمح بطرح الغث منه، على مسامع الناس وأنظارهم. ولماذا لا يجري التشجيع على المناقشة والكتابة؟!
وبالإمكان التشجيع على البرامج التلفزيونية الهادفة، وإطلاق الحريات وتشجيع المبادرة والإبداع، بما يؤدي رويدا رويدا، إلى انبثاق وعي جديد، يرتفع بمستوى الذوق العام، ويسهم في تحقيق نهضة فكرية وفنية وثقافية جديدة. هل آن وقت تغيير المشهد الداكن، أم أن علينا أن نستمرئ المزيد منه؟!!