منطقا الشرعية أم الوحدة: أيهما المرجح؟
للأسف جاءت الأحداث متسارعة، وصدر تكليف للسيد سلام فياض بتشكيل حكومة طوارئ، رأت قمة السلطة أن لا حاجة لتصديق المجلس التشريعي الفلسطيني عليها، ومنحها شهادة الولادة. وكانت الخطوة التالية، فلسطينيا، هي تأييد المجلس المركزي، لخطوتي السيد عباس، بحل الحكومة التي ترأسها حماس، وتكليف فياض بتشكيل حكومة طوارئ.
في أتون الصراع بين الفريقين، استخدمت يافطة الشرعية من قبل الذين اصطفوا مع هذا الفريق أو ذاك. وكان لكل منهما منطقه الخاص.. وكان المنطق في الغالب صائبا، لكنه استخدم كمشجب لتكريس حالة الاحتراب والاختلاف والتفتيت، والافتراق، بدلا من المصالحة والحوار والوحدة والتقارب.
كان منطق رئاسة السلطة، هو استخدام منطوق الدستور الذي يمنح الرئيس حق حل الحكومة متى ما وجد أن ذلك يصب في مصلحة الشعب الفلسطيني. وأنه بحله للحكومة قد مارس صلاحياته الدستورية. وهو منطق صحيح من وجهة النص الدستوري، لكنه يغيب حقائق عديدة أهمها أن التمسك بهذا القرار لن يصب في مصلحة الشعب الفلسطيني، وأنه سيؤدي إلى تمزيق الكيان “المسخ” الذي هو باعتراف جميع الأطراف لا يزال تحت سيطرة الاحتلال الصهيوني. وإذن فإن ما لدينا لا يرقى إلى أن يكون كيانا مستقلا، يحكم بمؤسسات ودستور.
لقد أثبتت تجارب أكثر من عقد، من عمر السلطة الفلسطينية، أن ما هو متوفر لدينا هو أقل بكثير من كيان. وكانت تجارب العربدة الصهيونية في الضفة والقطاع قد أكدت ذلك بما لا يقبل الشك أو الجدل. كانت قوات الاحتلال تحاصر المدن والقرى والبلدات الفلسطينية، وتهدم البيوت وتجرف المزارع وتغلق المعابر، وتغتال القيادات الوطنية الفلسطينية من مختلف منظمات المقاومة دون رادع، ودون استنكار من المجتمع الدولي، وغالبا ما يكون بتحريض واضح وصريح من الإدارة الأمريكية. وكانت قوائم أسماء قوافل الشهداء الأبرار قد كشفت زيف أي ادعاء بقدرة السلطة على اتخاذ أي قرار “مستقل”، دون تفويض من المحتل الغاشم. وبلغت العربدة الصهيونية حد محاصرة مقر الرئاسة الفلسطينية، وفرض الإقامة الجبرية على المرحوم السيد ياسر عرفات، رمز المقاومة الوطنية الفلسطينية في التاريخ المعاصر. ولم ينته الحصار عن المقر الرئاسي إلا باغتياله.
من جهة أخرى، تؤكد حماس مشروعيتها.. ومنطقها في ذلك صحيح أيضا. فقد وصلت إلى السلطة مدعومة أولا بشرعية المقاومة.. وكانت قائمة شهدائها، غنية وكبيرة، بما يعزز مشروعية حضورها الشعبي والوطني. ووصلت إلى السلطة أيضا مدعومة بتأييد شعبي كاسح، أكدته صناديق الاقتراع. وقد أحرج انتصارها الكاسح الإدارة الأمريكية التي جعلت من دمقرطة المنطقة شعارا رئيسيا لتحقيق مشروعها للقرن الأمريكي الجديد، فإذا بنتائج صناديق الاقتراع تأتي بما لا تشتهي السفن. لكن الذي لا شك فيه هو أن معادلتها الأخرى، لها حضورها الواسع في الضفة، ولها أيضا مشروعية وطنية استمدتها من قيادتها للنضال الفلسطيني منذ منتصف الستينيات، حين بدأت تقوم بعملياتها العسكرية من الشتات، عبر الحدود، من الأراضي السورية واللبنانية والأردنية. وبهذه المشروعية تمكنت من تحقيق انقلاب في منظمة التحرير الفلسطينية، واستولت عليها في عام 1968، بعد أن أطاحت بقيادتها التقليدية التي كان يرأسها المرحوم السيد أحمد الشقيري.
إن التمسك بيافطة الشرعية، بالنسبة لحماس أو فتح، لن يقدم كثيرا أو قليلا، طالما أنه قد أحدث شرخا كبيرا في وحدة القطاع والضفة، وأدى إلى قيام كيانين مشوهين، مساهما في تجزئة المجزأ، وتفتيت المفتت.. وطالما كانت نتيجته فرض حصار جائر، قاس ومرير على الشعب الفلسطيني، وعزل القطاع عن بقية العالم.
إننا هنا إزاء مشروعيتين، يشكل الصراع بينهما طعنا لوحدة النضال الفلسطيني. المنطق الصحيح، كما نراه، هو أن يقف الطرفان وقفة بطولية وشجاعة، تتخطى مغاليق الجرح، وتعبر إلى ضفة الوحدة، باعتبارها الطريق الوحيد الذي لا مناص منه، لصيانة الدم الفلسطيني والكرامة الفلسطينية، والوحدة الفلسطينية.
وقد أملنا كثيرا، أن يساهم الموقف العربي الرسمي، في إعادة عرى ما انفصم بين الإخوة الفلسطينيين، وأن تتداعى القيادات العربية إلى التذكير بالاستحقاقات الفلسطينية، وأن يكون اتفاق مكة مرجعية، في هذا المنعطف الحاسم، للخروج من النفق المظلم والعودة إلى الجادة الصحيحة. ومرة أخرى، للأسف، كان اتجاه الريح مغايرا. فقد انشطرت دول الطوق، وأعلنت حكومتا مصر والأردن عن تأييدهما لقرارات الرئيس الفلسطيني “أبو مازن”، بل وتعدى الأمر ذلك، إلى تلويح بخطورة الأوضاع في غزة على الأمن الوطني في البلدان المجاورة، وأشار البعض إلى إمكانية إرسال قوات محلية، أو نشر قوات دولية في قطاع غزة بما يفتح الأبواب لمزيد من التشظي والتفتيت، وسيادة الإرهاب والفوضى. تحفظت الحكومة السورية، وامتنعت عن اتخاذ أي موقف، ولم يصدر عنها حتى الآن ما يشي بتأييد أي من الفريقين المتصارعين.
الآن يجري استثمار صهيوني وأمريكي سريع لما حدث في القطاع، لاستكمال البرنامج الإسرائيلي في تحقيق المزيد من التنازلات عن الحق العربي. فتسرع الإدارة الأمريكية إلى إعلان تأييدها لخطوات الرئيس الفلسطيني، وترفع الحصار عن الضفة الغربية. ويقوم الاتحاد الأوروبي هو الآخر باللحاق بالركب الأمريكي، فيعلن الإفراج عن الأرصدة المالية للسلطة الفلسطينية. وتعلن الحكومة الإسرائيلية عن ترحيبها بخطوات رئيس السلطة، وعن رفع الحصار عن الأرصدة المالية للسلطة الفلسطينية. وهكذا بقدرة قادر أصبحت السلطة الفلسطينية في الضفة، الفتاة المدللة التي يتبارى الجميع من أجل استرضائها..
ماذا تهدف الإدارتان الأمريكية والصهيونية من هذا الغزل والوقوف الصريح والمعلن إلى جانب قرارات الرئيس الفلسطيني، الذي كان يتهم حتى الأمس القريب بضعف شخصيته وعدم قدرته على اتخاذ القرارات الجريئة والحاسمة؟ هل هو انتصار لمنطق الشرعية؟، وكانت الإدارتان الأمريكية والصهيونية دائما أول من يطعن هذا المنطق في الصميم؟. أم إنها أسباب أخرى؟
التسارع الذي تم فيه اتخاذ القرارات الأمريكية والإسرائيلية تجاه السلطة يكشف بجلاء عن النوايا التي تختبئ وراء تلك الخطوات. فهناك حصار قاس سوف يستمر على القطاع، وهناك ملايين من الدولارات ستضخ في الضفة الغربية. وكلا السلوكين: الحصار والإغداق سيؤديان إلى النتيجة المطلوبة أمريكيا وصهيونيا: استمرار حالة التشظي، وأيضا التبشير الزائف بمزايا السلام، وتعميم مقولة مفادها أن المقاومة تؤدي إلى الجوع والانفلات الأمني، والتفريط والتنازل عن الحقوق يقودان إلى العيش الرغيد والرخاء وتحقيق الأمن.
في هذا الاتجاه، ينعقد مؤتمر شرم الشيخ، الاثنين، يوم كتابة هذا الموضوع، الذي يضم الرئيس المصري، حسني مبارك والملك الأردني عبدالله الثاني، ورئيس الحكومة الإسرائيلية أولمرت، والرئيس الفلسطيني محمود عباس. ولن يكون هناك جديد في المواقف، فكل الأطراف المجتمعة قد أعلنت مسبقا عن تأييدها لخطوات الرئيس الفلسطيني محمود عباس. الجديد المتوقع سيتمثل في خطوتين رئيسيتين: الأولى هي المزيد من إحكام الحصار على حكومة حماس في غزة، بحيث يؤدي هذا الحصار إلى تقلص التأييد لحماس داخل القطاع وانفضاض الجمع من حولها، وبالتالي إلى إضعافها وعزلها. وسوف تستثمر الإدارة الإسرائيلية خشية مصر والأردن من تنامي التيارات الإسلامية، واستفحال أدوارها، في بلديهما للتحريض على حماس وكسب تأييدهما للكيان الصهيوني، في أية مواجهة عسكرية محتملة لحماس. أما الثانية، فهي، تحقيق انفراج سياسي واقتصادي، وربما الدفع بعملية التسوية خطوات إلى الأمام، بما لا يعزز مطامح السلطة الفلسطينية في تحقيق “السلام”، وفي نفس الوقت بما لا يتعارض مع المطالب السياسية للكيان الصهيوني، في تخلي الفلسطينيين عن عروبة القدس، وحق العودة.
انتصارنا الحقيقي ينبغي ألا يكون موجها، في هذه الحالة، لتأييد الشرعية، بل لانتصار منطق الوحدة الوطنية، والعودة إلى بنود اتفاق مكة.. إن ذلك وحده هو السبيل للتعالي فوق الجراح وتحقيق الوحدة الوطنية وصيانة قدسية النضال الفلسطيني، فهل لا يزال لدينا متسع من الوقت لتحقيق ذلك، أم إن سرعة الطوفان قد جرفت كل الثوابت والأحلام؟!
yousifsite2020@gmail.com
اضف تعليق
اسمك بريدك الالكتروني
تعليقك:
تعليقات
* تعليق #1 (ارسل بواسطة وائل ابو الحسن)
لقد اصبت كبد الحقيقة، في وصفك لما جرى وما زال يجري على الساحة الفلسطينية، من صراع منطق وصلاحيات، وأن المهم هو منطق الوحدة لا غيره من رؤى وأطروحات.
* تعليق #2 (ارسل بواسطة ناصر جميل)
بسم الله الرحمن الرحيم
الاستاذ يوسف مكى المحترم
تحية العروبه
كمواطن بسيط اشعر بمراره لما حدث0 نتيجه لما يمليه على الواجب والعروبه والدين تجاه فلسطين وان جرحها مؤلم فى جسد كل لبناء الامتين العربيه والاسلاميه0
لكنى اتساأل لقد وقف امام مشاعر ملايين العرب قادتهم وانظمته مومنهم من تاجر بها0ومنهم ساندها لكن الدرجات متفاوته لكن عقل العربى باختلاف الحكام موحد تجاه قضيته الكبرى فلسطين0
لكن ما يحدث هذه المره على يد ابنائها ومجاهديها والطرفين جاهد 0 انه امر لا يستسيغه العقل ونقول لاعباس ولا هنيه ولا من صفق لهما ان يعبثا بالنضال الفلسطينى والشعور الشعبى العربى 0
عسى ولعل الطرفين ان ينقادا لمنطق الحكمه ويقرؤوا ماكتبت لهم يااستاذ يوسف وفعلا ان قدسية النضال الفلسطينى يجب ان لا يذيبها الصراع على السلطه0
ناصر جميل
* تعليق #3 (ارسل بواسطة ابو جورج)
الاستاذ الكريم واسرة التحرير
لا اعرف انكم تجهلون القانون الفلسطيني ام تتجاهلونة لقد قرات تحيلات وفقرات من الدستور لا تعطي ابو مازن الحق والتصرف كما تقول والا الفقرات المذكورة مغلوطة
وشمل الباب الثالث من القانون الأساسي صلاحيات الرئيس الدستورية، (المواد 34-46). وأكدت المادة 38 من القانون الأساسي على أن «يمارس الرئيس مهماته التنفيذية على الوجه المبين في هذا القانون»، وبالتالي فإن الصلاحيات غير المنصوص عليها صراحة والتي يعطيها الرئيس لنفسه تكون قد تجاوزت الدستور.
وحُددت صلاحيات الرئيس في مواد عدة، منها المادة 39 التي نصت على أن الرئيس هو القائد الأعلى للقوات الفلسطينية، كما فوضت المادة 40 الرئيس تعيين ممثلي السلطة الوطنية لدى الدول والمنظمات الدولية، ونصت المادة 41 على إعطاء الرئيس صلاحية إصدار القوانين بعد إقرارها من المجلس التشريعي، وأعطت المادة 42 الرئيس حق العفو الخاص عن أي عقوبة أو خفْضها، وفوضت المادة 43 الرئيس إصدار المراسيم الموقتة في حال غياب السلطة التشريعية عن الانعقاد، فيما يعرف بحالات الضرورة القصوى، كما أعطت المادة 45 الرئيس صلاحية اختيار رئيس الوزراء وحق إقالته وحق قبول استقالته، وأعطت المادة 107 الرئيس الحق في تعيين النائب العام، وأعطت المادة 109 الرئيس الحق في التصديق على حكم الإعدام الصادر عن المحاكم المختصة، كما بينت المادة 110 الحالات التي يجوز فيها للرئيس إعلان حالة الطوارئ. ولكن ليس بين هذا كله حق يخوّل الرئيس تشكيل حكومة من تلقاء نفسه.
بل إن الدستور الفلسطيني، يؤكد مسؤولية الحكومة المنتهية ولايتها في القيام بعملها لتسيير الأعمال التنفيذية إلى حين تشكيل حكومة جديدة، كما جاء في المادة 79 (3)، التي نصت على أنه «عند انتهاء ولاية رئيس الوزراء وأعضاء حكومته يمارسون أعمالهم موقتاً باعتبارهم حكومة تسيير أعمال ولا يجوز لهم أن يتخذوا من القرارات إلا ما هو لازم وضروري، لتسيير الأعمال التنفيذية إلى حين تشكيل الحكومة الجديدة». وقياساً على ذلك، فإنه لا يمكن القول إنه يجوز تجاوز الحكومة المُقَالة في تسيير أمور الحياة اليومية لحكومة أخرى يشكلها الرئيس نفسه.
إضافةً إلى ذلك، فإن المادة 67 من القانون الأساسي تعطي المجلس التشريعي الحق في الموافقة على أي حكومة مشكلة بمنحها الثقة بالغالبية المطلقة. ولعله السبب الذي من أجله سارع الرئيس عباس الى إصدار مرسوم آخر يوقف بموجبه العمل بمواد الدستور الـ 65-67، وهو أمر لا يملكه دستورياً، إذ إن ذلك نوع من التعطيل الفعلي للدستور.
وبالرجوع إلى مواد الباب السابع المتعلق بإعلان حال الطوارئ، نصت المادة 110(1)، أن للرئيس الحق في إعلان حال الطوارئ عند «وجود تهديد للأمن القومي بسبب حرب أو غزو أو عصيان مسلح أو حدوث كارثة طبيعية… لمدة لا تزيد على ثلاثين يوماً» على أنه يجوز له «تمديد حالة الطوارئ لمدة ثلاثين يوماً أخرى بعد موافقة المجلس التشريعي الفلسطيني بغالبية ثلثي أعضائه»، كما نصت على ذلك المادة 110(2).
وبقبول الزعم القائل إن تمكن «حماس» من الاستيلاء على مقر جهاز الأمن الوقائي ومقر الاستخبارات العامة في غزة، يشكل تهديداً للأمن القومي بحيث يتطلب معه إعلان حالة الطوارئ، فإنه ربما جاز للرئيس الفلسطيني إعطاء نفسه حق إقالة حكومة الوحدة الوطنية، التي تطلب تشكيلها تدخلاً سعودياً كريماً. إلا أن الرئيس لم يحدد فترة زمنية لحالة الطوارئ تلك، وهو أمر مطلوب بموجب المادة 110(3).
النظرة القانونية الفاحصة إذاً، تخلص إلى أن قرار الرئيس الفلسطيني بتشكيل «حكومة إنفاذ حالة الطوارئ»، أمر غير مخول له بنص الدستور من جهة، ومتعارض مع روح الدستور الفلسطيني من جهة أخرى. وبالتالي فإن حكومة الطوارئ التي أعلن الرئيس عباس عن تشكيلها تأتي خارجة عن القانون، وليست لها أي شرعية دستورية تستند إليها، ومن هذا الباب يجب عدم الاعتراف بها أو التعامل معها، بغض النظر عن التأييد الدولي الذي قد تكسبه هذه الحكومة. ولعل في مسارعة إسرائيل والولايات المتحدة إلى تأييد خطوة الرئيس عباس ما هو كفيل بإثارة الشكوك حول المستفيد الأكبر من ذلك القرار.