ملامح السياسة الأمريكية الجديدة في الشرق الأوسط

0 213

أشرنا في الحديث الماضي إلى أنه لا توجد في العلاقات الدولية صداقات دائمة، وأن ما يحكم التحالفات بين الدول هي المصالح وتوازنات القوة. وقد جرت مناقشة المتغيرات التي شهدها العالم، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى يومنا هذا على ضوء هذه المقولة.

 

ولا شك أن كثيرا مما نشهده الآن من تطورات سياسية على الساحة الدولية هو استمرار لسيادة منطق المصالح في تأسيس الصداقات، رغم ما يبدو على السطح، في بعض الأحيان، من رسوخ وثبات وخصوصية لبعض العلاقات. وهكذا يتحرك، ضمن هذا المنطلق، اتجاه العلاقات يمنة ويسرة، بديناميكية وعي المصالح، دون توقف وسكون، وفقا لمقتضيات اللحظة.

 

ووفقا لهذا الجدل، فإن المتتبع للتصريحات الأخيرة لكثير من المسئولين في الإدارة الأمريكية سيلحظ تغيرا جذريا في لغة الخطاب السياسي الذي ساد خلال الأربع سنوات الأخيرة، من سيطرة اليمين على البيت الأبيض، خاصة بعد حوادث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001.

 

ويمكن اختصار أهم سمات السياسة الأمريكية الجديدة في المطالبة بالعودة من جديد للحوار والتعاون والتنسيق مع أوروبا القديمة، والإعترافات المتتالية لعدد من كبار الإستراتيجيين الأمريكان بخطل سياسة بلادهم في العراق، والمطالبات المتكررة بالإنسحاب العسكري السريع من هذا البلد، بعد أن كان صقور الإدارة الأمريكية يعلنون صراحة بأنهم لن يلقوا بالا لنداءات العالم لهم بعدم التدخل في شئون البلدان الأخرى، معتبرين تدخلاتهم وحروبهم الإستباقية جزءا من مشروع الأمن القومي الأمريكي. والأمر الآخر هو انتقال مركز الجاذبية في الإهتمام الأمريكي، وإن كان ذلك بشكل مؤقت، من قلب الخليج العربي، إلى بلاد الشام.. إلى سوريا ولبنان، بما يوحي بأن ثمة مشروع خفي يدبر الآن لهذا الجزء من الوطن العربي.

 

ويمكن أن نشير في هذه الإتجاهات إلى زيارة وزيرة الخارجية الأمريكية الأخيرة إلى فرنسا، وتصريحها بأن الضرر الذي لحق بالعلاقات بين بلادها وبين فرنسا قد انتهى، وأن التفاهم حول قضايا منطقة الشرق الأوسط بين الجانبين قد وصل حد التطابق. والواقع أن المستشارة السابقة للرئيس لشئون الأمن القومي قد قدمت لهذا التغير السياسي الدراماتيكي قبل استلامها لمنصب وزارة الخارجية، حيث قالت ما نصه: إن على الولايات المتحدة استخدام الدبلوماسية خلال ولاية الرئيس بوش الثانية. وقالت رايس، خلال إدلائها بشهادتها أمام مجلس الشيوخ، يجب علينا استخدام الدبلوماسية الأمريكية للمساعدة في خلق نوع من توازن القوى في العالم. واضافت: إن وقت الدبلوماسية هو الوقت الحاضر. إن الدبلوماسية الأمريكية يجب أن تبني نظامًا دوليًا يقوم على قيمنا المشتركة وسيادة القانون. وحول اتباع إدارة الرئيس بوش لسياسة أحادية الجانب في العراق وغيرها من دول العالم بغض النظر عن الرأي العالمي، قالت رايس: أن تفاعل الولايات المتحدة مع دول العالم الأخرى ينبغي أن يقوم على الحوار وليس على فرض إملاءات من جانب واحد!.

 

إن استعادة الصورة السابقة ومواقف الساسة الأمريكيين قبل عامين من هذا التاريخ هي التي تجعل القارئ يصل إلى قناعة بأن ثمة انقلاب قد حدث في الفكر السياسي والإستراتيجية التي تبنتها ادارة بوش منذ احداث 11 سبتمبر. لقد رفضت هذه الإدارة آنذاك، اي دورمستقل ورئيسي للامم المتحدة واوروبا وروسيا والصين، بل ان كولن باول، المصنف كأحد حمائم هذه الإدارة قد أعاد وصف رامسفيلد لفرنسا وألمانبا باوروبا القديمة، اما بوش فهدد الأمم المتحدة بقوله: اذا لم تتبعي سياستنا فسوف تصبحين بلا دور!. وكان الخلاف الرئيسي بين هذه الاطراف وامريكا قد دار حول اصرار إدارة بوش على استراتيجية الضربات الاستباقية، في حل المشاكل الدولية، والرفض الامريكي لاي دور فعال لهذه الاطراف في حل القضايا الدولية الشائكة، وتعمد امريكا ان لا يكون للامم المتحدة اي دور فعال الا تحت مظلتها.

 

وحول محور الإنسحاب العسكري الأمريكي السريع من العراق، فلدينا مجموعة من الحوادث والتصريحات التي تؤكد على بروز اتجاه جديد آخذ في الإتساع يوما بعد يوم يدعو إلى الإنسحاب العسكري الفوري من بلاد الرافدين. فعلى سبيل المثال، أوردت جريدة عكاظ في عددها الصادر في 13 فبراير (هذا الشهر) خبرا مفاده أن القوات الامريكية قامت بعملية انسحاب سرية من احدى اخطر المناطق العراقية، وسلمتها لقوى الامن المحلية. وأن كتيبتين من القوات العسكرية العراقية أصبحتا، منذ خمسة ايام، مسئولتين عن السيطرة على المنطقة المحيطة بشارع حيفا, وسط بغداد, والتي تحولت، خلال الشهور الأخيرة، الى ميدان حرب بين المقاومين وقوات الإحتلال. ومن المتوقع ان تنتهي عملية التسلم والتسليم بالكامل في غضون اسبوع واحد.

 

وفي هذا الإتجاه أكدت صحيفة ذي اوستراليان ان هذا التحرك العسكري يشكل الخطوة الاولى لخطة ترمي الى خفض التواجد العسكري الامريكي في المدن والبلدات الثائرة وسط العراق, خلال مرحلة ما بعد الانتخابات مع الابقاء على مستشارين لمساعدة الجيش العراقي على استلام المسؤوليات الامنية.

 

أما التصريحات الدالة على التغير بالسياسة الأمريكية في العراق فيمكن أن نشير إلى بعضها على سبيل الأمثلة لا الحصر. فقد أشار كولن باول، وهو في أيامه الأخيرة كوزير للخارجية أن الإنسحاب الأمريكي من العراق ضرورة تتم مناقشتها على اعلى المستويات. وأكد بطريقة مراوغة على نفس النتائج التي توصل لها فيسك، والتي قدمنا بها لهذا الموضوع في حديث الأسبوع الفائت. وأدلت صحيفة الغارديان البريطانية، يوم 18 يناير بدلوها، وأشارت إلى أن المقاومين ينصبون نقاط تفتيشهم في كافة المناطق، وأنهم يطبقون بعملياتهم على معظمها. واعاد ادوارد كنيدي السيناتور الديمقراطي التأكيد: على أن العراق هو فيتنام جورج دبليو بوش، واتهم الإدارة الأمريكية بالإنحراف عن ملاحقة أسامة بن لادن، وتفضيل الخيار المدمر بتوريط القوات الأمريكية في مستنقع لا نهاية له بالعراق. وكان الأبرز من بين هذه التصريحات، تصريح عضو الكونجرس الأمريكي، هوارد كويل، أحد الصقور في الحزب الجمهوري، الذي تراجع فيه عن تأييده لنهج إدارة بوش في العراق. فقد اتهم هذه الإدارة بافتقادها لخطة واضحة لما بعد الغزو والأحتلال!. وأشار إلى أنه يشعر بالمرض والارهاق كلما قرا في صحف الصباح عن مقتل خمسة او عشرة من الجنود الأمريكيين في العراق، مؤكدا على أهمية وضع مسألة انسحاب الجيش الأمريكي من العراق في الحسبان.

 

أما السناتور جيم ليتش، العضو المخضرم بالكونجرس فقد كان أكثر وضوحا، حيث أشار إلى أهمية اعتبار انتهاء الانتخابات العراقية إيذانًا بالانسحاب الفوري للقوات الأمريكية؛ حتى لا تظهر الولايات المتحدة الأمريكية كقوة محتلة لفترة طويلة الأجل. وشبه بقاء قوات الإحتلال بالمغناطيس الذي يجذب المشكلات ويرسخ لحالة من عدم الإستقرار بالمنطقة. وركزت مجلة الفورن افيرز، الاكاديمية المهمة بالنسبة لصناع القرار الامريكي، في ثلاثة اعداد متتالية، على ضرورة الانسحاب من العراق، لان النتيجة الحتمية للبقاء فيه هي العجز عن تحقيق النصر. وفي 16 يناير أكدت صحيفة ‘صنداي هيرالد’ أن عددًا من كبار القادة العسكريين الأمريكيين اعترفوا أخيرًا بأنهم أخفقوا في تقدير إمكانيات المقاومة العراقية، مؤكدين على أنهم يواجهون في العراق مقاومة منظمة ذات مستوى تدريبي عالٍ.

 

إن هذه الصورة القاتمة للوضع في العراق، تطبع الآن كثيرمن الصحف ومحطات التلفزة، ويبدو أنها مقدمة لتهيئة الشعب الأمريكي لقرار يبدو أن لا مفر منه. وربما يعاد بعث سيناريو فتنمة الحرب، السيء الصيت، من جديد في العراق.

 

وفيما يتعلق بانتقال مركز الجاذبية من قلب الخليج العربي إلى بلاد الشام، فلعل أهم المحطات في هذا الإتجاه هي الهجوم الإسرائيلي على عين الصاحب، وصدور قرار مجلس الأمن الدولي 1559 بحماس فرنسي ودعم أمريكي، والتصريحات المتتالية لمختلف المراكز البارزة في صناعة السياسة الأمريكية المتمثلة بمطالبة سوريا بسحب قواتها من لبنان والتوقف عن دعم المقاومتين الفلسطينية والعراقية، وما يسمى بتحقيق الإصلاح السياسي ونشر الديمقراطية في سوريا، وأخيرا حملة الإغتيالات والتفجيرات التي ذهب ضحيتها قبل عدة أشهر نائب برلماني ووزير سابق، وأخيرا اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق المرحوم رفيق الحريري.

 

إن هذه جميعا تشكل إشارات واضحة على أن مركز الجاذبية قد انتقل فعلا إلى بلاد الشام، وأن وراء الأكمة ما وراءها.. ما ذا تعني هذه الملامح الجديدة، ولماذا الآن؟ ذلك ما سوف نحاول الإجابة عليه في حديثنا القادم بإذن الله.

 

yousifsite2020@gmail.com

 

 

د. يوسف مكي

تاريخ الماده:- 2005-02-23

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

5 + ثلاثة =


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.

د.يوسف مكي