ملاحظات من وحي الملتقى الثالث للحوار الوطني
كانت مشاركتي، كباحث في الملتقى الثالث للحوار الفكري بدعوة كريمة من مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني فرصة ثمينة، مكنتني من تحقيق إطلالة معمقة وواعية على نشاط ودور هذا الصرح الشامخ الذي أصبح معلما بارزا من معالم الحوار والقبول بالرأي الآخر وتفاعل وتلاقح الأفكار في وطننا الغالي.
ولا شك أن هذا المركز، قد أنجز الكثير في فترة قياسية، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن تجربة الحوار حديثة وغير معهودة في مجتمعنا وأن عمر المركز لم يتجاوز حتى الآن عاما واحدا. فقد نجح في تحقيق ثلاثة لقاءات، شارك فيها علماء ومفكرون ومثقفون ومهتمون بالشأن العام من مختلف أرجاء المملكة، وبتمثيل يكاد يكون أفقيا وشاملا لمعظم الشرائح والأطياف والتيارات الدينية والفكرية والاجتماعية والسياسية. وفي كل ملتقى من هذه الملتقيات ناقش المجتمعون محورا مهما من المحاور ذات العلاقة بمستقبل النهضة في البلاد، وخرجوا بتوصيات عديدة تم رفعها إلى سمو ولي العهد الأمير عبد الله بن عبد العزيز.
على أن ما حدث من إنجازات يجب ألا يغيب عنا قضايا عديدة مهمة جديرة بالملاحظة وتسليط الضوء عليها في عدة محاور ومجالات، ابتداء بمشروع الحوار ذاته. فالمركز، كما قلنا، حديث في نشأته. وقد أمر ولي العهد بتأسيسه بعد لقاءات جرت مع مجموعة من العلماء والمفكرين والمثقفين. ولعل السرعة في تلبية هذا الأمر قد جعلت الملتقيات الثلاثة التي مضت قيد التجريب، وحرمت المركز من وجود هوية خاصة به. كما أدت إلى بروز سلبيات في أكثر من مجال، تقتضي منا الحرص على نجاح هذه التجربة والدفع بها خطوات متقدمة إعادة قراءتها وتقييمها، وتحديد صياغات وأطر وهياكل جديدة لها على ضوء القراءة والتقييم.
فإذا تحدثنا عن هوية الملتقى، فإنه لا يزال يسودها شيء من الضبابية، وينعكس ذلك بشكل واضح وجلي على النتائج والتوصيات الفضفاضة التي يتوصل لها المجتمعون، فإن من الأهمية تحديد الدور المناط بهذا المركز. هل هو محاولة من القيادة السياسية لأن تقترب الأطياف الدينية والسياسية والفكرية والاجتماعية من بعضها البعض، وتوجد لغة مشتركة فيما بينها، وسقفا يمثل الحد الأدنى من القواسم المشتركة والأفكار والرؤى التي تشكل برنامجا لحاضر الوطن ومستقبله؟ إذا كان الأمر كذلك فلا بأس، ومن المؤكد أن مثل هذه الخطوة ستشكل لبنة قوية على طريق تفعيل الحراك السياسي والاجتماعي في المملكة، والذي بدأت تتضح ملامحه في السنوات الثلاث الأخيرة.
في هذه الحالة تواجهنا مشكلة تبدو بسيطة على السطح ولكنها جوهرية جدا إذا أريد للحوار أن يكون فاعلا ومثمرا. لا بد أن يمثل المشاركون مختلف أطر المجتمع المدني، إذا أريد للحوار أن يكون ممثلا لمختلف فئات الشعب. ومن هنا أؤكد مرة أخرى، على ما سبق لي أن أشرت إليه في أحاديث سابقة، أن تدشين مؤسسات المجتمع المدني ينبغي أن يكون خطوة سابقة لملتقيات الحوار، وأن المشاركين في هذه الملتقيات يفترض فيهم أن يكونوا ممثلين للمؤسسات المدنية التي يرتبطون بها، بحيث يشكل حضورهم تتويجا حقيقيا لمشاركة شعبية من قبل معظم شرائح المجتمع وفئاته وأطيافه.
الحالة الأخرى أن يكون الملتقى منتدى استشاريا، يقدم النصح والمشورة والخبرة للقيادة السياسية. وهنا يصبح لزاما أن يكون الحاضرون من ذوي الخبرة والاختصاص والتكنوقراط في المجال الذي تجري مناقشته، دون وضع أي اعتبار للوجاهة والموقع الاجتماعي. والدور هنا يتوقع منه أن يكون فنيا بحتا، يمارسه ذوو الاختصاص. ويمكن في هذه الحالة أن تكون هذه الاجتماعات ملحقة بمجلس الشورى أو بهيئة حكومية تحدد القيادة مهامها وخصائصها. وحالة أخرى، أن يكون الملتقى مؤتمرا علميا. وهو إلى حد ما الشيء الذي طبع اللقاء الأخير بالمدينة المنورة، وإن لم يكن ذلك بالدقة، حيث قدم ثمانية عشر بحثا للمشاركين. وقد تناولت هذه البحوث أربعة محاور رئيسية هي على التوالي علاقة المرأة بالتشريع والعمل والتعليم والمجتمع.
لم يكن مركز الحوار، عبر ملتقياته الثلاثة، للأسف، واضحا في تحديد بصمته. وقد سادت أعماله الصيغ التجريبية. كان ذلك جليا في اختلاف عدد المشاركين في كل ملتقى، وفي نسبة تمثيلهم للأطياف الدينية والاجتماعية والسياسية داخل القاعة، وفي طريقة أداء هذه الملتقيات.
ففي الملتقى الأول كان هناك ثلاثون مشاركا، وفي الملتقى الثاني أربعة وأربعون مشاركا، وفي الملتقى الثالث سبعون مشاركا وثمانية عشر باحثا. وهذا يعني أن حق المشارك في المناقشة قد تضاءل منذ اللقاء الأول للقاء الأخير إلى الربع، نتيجة تضاعف عدد المشاركين، وبقاء فترة انعقاد المؤتمر على ما هي عليه. إضافة إلى أن عرض ومناقشة البحوث قد استحوذ على زمن طويل، وأخذ حصة كبيرة من وقت الملتقى. وهذا شيء جديد لم تمر به الملتقيات السابقة. وكانت النتيجة أن المناقشات لم تتسم بالثراء والعمق، وتم سلق كثير من الأفكار المهمة، استجابة لضغط الوقت، وربما لأسباب أخرى.
أما حول نسب التمثيل فقد كفاني الزملاء الذين كتبوا عن هذا الموضوع على صفحات هذه الصحيفة الغراء عبء الحديث عنها، وتناولوها بالتفصيل. لكنني أشير إلى أن فقدان التوازن قد خلق وضعا غير صحي بين مختلف الفرقاء، في وقت كنا أحوج ما نكون فيه لمواجهة التحديات التي تواجه بلادنا، وجملة المخاطر التي تحاول العصف بأمننا واستقرارنا.
غيب في هذا الملتقى، للأسف، الخطر الأكبر، المتمثل في الإرهاب وقنابل التفجير والقتل وترويع الآمنين، وأخذنا نسوح في قضايا فرعية، ليس هناك في الغالب خلاف حولها، وهكذا جاءت التوصيات في مجملها أشبه بتأكيد المؤكد وتغييب المغيب. وقد تصرف بعض المشاركين الذين كانت لهم حظوة في نسبة أكبر من التمثيل بأسلوب المنتصرين، مستخدمين الأحاديث والنصوص بالتفسيرات التي تخدم غاياتهم، معتبرين أنفسهم متفردين بالمعرفة والعلم والحقيقة. وهكذا بدونا جميعا، من خلال المماحكات الصورية والمبارزات اللفظية أشبه ما نكون بلاعبين في حلبة مصارعة، غاب عنها الهدف النبيل للحوار المتمثل في إيجاد لغة وسقف مشتركين بيننا، لصالح خير الوطن وتقدمه، حين انكب البعض وعملوا جاهدين على اختزال الهدف في تسجيل الضربة القاضية!.
أما حول طريقة الأداء، فلا شك أن عدد البحوث كان يقتضي تقسيم أعمال المؤتمر إلى ورش، تناقش كل ورشة محورا خاصا، ويلتقي المشاركون في اليوم الأخير، وقد أعدوا ما لديهم من أوراق ومقترحات، بحيث يتمكن المشاركون من إثراء جميع المحاور. لكن هذه الصيغة لم يتم الأخذ بها، وربما كانت غائبة على الإخوة الذين قاموا بالتحضير لهذا الملتقى.
وكانت طريقة طرح التوصيات، هي الأخرى، مثار جدل وخلاف بين المشاركين، حسمت في النهاية بالإقصاء والمصادرة، وقضي الأمر. وهو أمر يطرح أمام الهيئة المشرفة على مركز الحوار مستقبلا، مسألة صياغة أدوات وآليات جديدة كابحة، تضمن أن تكون التوصيات معبرة بشكل حقيقي عن أفكار ورؤى المشاركين في القاعة، هذا طبعا إذا كان المطلوب أن نخرج دائما بتوصيات خاصة للقيادة السياسية وولي الأمر بالبلاد في هذا النوع من الملتقيات. بالنسبة لي شخصيا، لا أرى موجبا في حوار كهذا أن يخرج المشاركون بتوصيات خاصة، وإذا ما تم التسليم بأن ذلك أمر لا غنى عنه، فينبغي ألا يكون هناك حرص من المشاركين أو هيئة المؤتمر على التوافق، لأن ذلك لا يعني حوارا البتة، بل تماهيا وتجانسا، وذلك شيء مستحيل. لأن الحوار يتم بين عناصر تختلف في رؤاها وأفكارها، وتبحث عبر حوارها عن نقاط تتقاطع فيها الرؤى والأفكار، يقترب من خلالها المشاركون من بعضهم البعض. وفي هذه الحالة يمكن اللجوء إلى التصويت، وتحديد عدد ونسبة المصوتين لصالح التوصيات والمعارضين لها والمتحفظين عليها.
من جهة أخرى، فإن الهدف من الحوار هو إيجاد لغة وأرضية مشتركة، وهذا هدف محمود بحد ذاته، لكن فسحة ثلاثة أيام لن تكون كافية لتحقيق ذلك. وسوف ينقطع الحوار بانتهاء الملتقى، ليعقد ملتقى آخر تشارك فيه وجوه جديدة، يبهت خلالها حضور الوجوه القديمة، إلا فيما ندر. والواقع أن هذه قضية مهمة، يبدو أنها كانت حاضرة في ذهن سمو ولي العهد حين اقترح أن يكون لقاء الحوار شهريا. لكن ذلك كان على كل حال، فوق طاقة البشر وقدرتهم على الاحتمال، إلا أنه عكس اهتماما واضحا من لدن سموه بأن يؤتي الحوار بثمار إيجابية وبأسرع وقت ممكن. وهنا أيضا لا بد من توفر آلية لمعالجة هذه المسألة.
وتبقى هناك محاور مهمة أخرى، ينبغي تسليط الضوء عليها في حديث قادم بإذن الله.
yousifsite2020@gmail.com
د. يوسف مكي
تاريخ الماده:- 2004-06-23