ملاحظات حول المجتمع المدني وتفعيل الحوار

0 184

هذا الحديث هو مجموعة من الملاحظات المتناثرة، يجمع بينها أنها تتصل، في معظمها، بالحراك الدائر في كثير من الأقطار العربية الآن، والمتمـحور حول موضوع الإصلاح السياسي، والانتقال إلى الحالة الدستورية والنيابية، وتدشين مؤسسات المجتمع المدني والجمـعيات الأهـلـية. وقد هدفت من طرحها، أن أشارك القارئ الكريم في ممارسة نوع من الرياضة الذهنية بهدف تنشيط الذاكرة وتجذير الوعي في قضايا أساسية أصبحت موضع اهتمام الجميع.

 

أولى هذه الملاحظات، أن قراءة التاريخ العربي المعاصر، توضح لنا أن الشعب العربي، بعد نضالات وتضحيات جسيمة، قد فتح عينه على استقلال ناقص، حيث ارتبطت معظم الأقطار التي استقلت بمعاهدات واتفاقيات جائرة وعلاقات غير متكافئة، عطلت من حريتها في الحركة، وخلقت تبعية مريعة أعاقت عملية التنمية والبناء في بلدانها.

 

إضافة إلى ذلك، فإن رسم الخرائط السياسية للمنطقة، والإستراتيجيات الإستعمارية التي تزامنت مع نتائج الحرب العالمية الأولى، وفي المقدمة منها، اتفاقية سايكس- بيكو لم تأخذ في الإعتبار إرادة شعوب هذه المنطقة، أو حقائق الجغرافيا والتاريخ، وإنما مصلحة المحتل، وتأمين قدرته في السيطرة على المعابر والمنافذ الإستراتيجية في هذه البلدان واستمرار عملية نهبها، حتى بعد منح وثائق الإستقلال.

 

ومن جهة أخرى، واجهت الأقطار التي استقلت حديثا، مشاكل اجتماعية عويصة، فقد تكشف للجميع بعد أن خرج المحتلون أن الموارد القطرية، في ظل انعدام الوحدة القومية والتكامل الإقتصادي العربي، غير كافية للوفاء بالإلتزامات الجديدة. لقد جرى نهب جزء كبير من المواد الخام أثناء هيمنة المحتل الأجنبي، وامتد هذا النهب ليشمل حتى البشر في بعض البلدان الأفريقية، حين حولت شعوب تلك البلدان إلى عبيد تباع في أسواق النخاسة. فكان على هذه الأقطار أن ترهن سيادتها من جديد من أجل مواجهة متطلباتها الإقتصادية.

 

وحتى الدول العربية التي حالفتها الأقدار، بثروة النفط، لم يكن بمقدورها أن تضطلع بعملية استخراجه وإدارة إنتاجه وتسويقه، فكانت مرتعا خصبا لاستغلال بشع من الدول الصناعية المتقدمة التي امتلكت القدرة على الإضظلاع بمسؤولية الإستخراج والإدارة والتسويق. لقد كانت الدول الرأسمالية تحصل على خمسة دولارات في مقابل كل دولار من سعر النفط تحصل عليه الدول المنتجة. وهكذا كانت النتيجة في الأقطار العربية الفقيرة والغنية على السواء، انتقاص للسيادة وضياع كبير للحقوق وخلل في التوازن الطبقي، وتشوه في هياكل البناء، وصراعات اجتماعية مشحونة بالتوتر.

 

الملاحظة الثانية، أن قيام المجتمع المدني هو محصلة سياسية لنتائج اقتصادية واجتماعية وفكرية، وهو نتاج حراك طويل تخوضه المجتمعات الإنسانية. وشرط نشوئه توفر مناخ ملائم يسمح بحل المشاكل عن طريق فتح آفاق الحوار والمناقشة الحرة واحترام الرأي والرأي الآخر. وشرطه الآخر أن يتحول المجتمع بأسره إلى مجتمع منتج، قادر على أن يستخدم قواه ومحركاته الذاتية، وأن يزج بها في عملية النهوض بالمشروع الوطني، وأن يصنع ثروة تكفي الجميع، وأن يجري توزيع الثروة بشكل عادل، وعلى أساس يكفل لكل أفراد المجتمع نصيبا في الثروة العامة، تكفي لتلبية الاحتياجات الأساسية من الغداء والكساء والصحة والمسكن والتعليم والثقافة.

 

إن ضمان تحقيق ذلك من شأنه أن يحقق التوازن الإقتصادي والإجتماعي الذي يمكن أن يقوم عليه التوازن السياسي داخل أي مجتمع. هذا التوازن سوف يعبر عن نفسه ببروز مؤسسات دستورية وحرفية وجمعيات أهلية، تمثل الوعاء النقي للحوار، وتكون في النهاية مصدرا من مصادر التشريع وصدور القرارات.

 

ولأن أحد أهم قوانين الحياة هو الحركة، فإن القوانين التي تصدر في مرحلة ما، سوف لن يكتب لها النجاح إذا اتصفت بالجمود والسكون, ولذلك فإن أي حراك سياسي أو اجتماعي ليس سوى مقدمة لحراك آخر أعلى.. وهكذا، فمادامت الحياة مستمرة، فإن تطلعات وآمال ومطالب جديدة سوف تبرز، وسيكون من نتائج ذلك أن الحراك والحوار سيستمران جنبا إلى جتب.

 

الملاحظة الثالثة، أن قيام المجتمع المدني والبدء في تدشين مؤسساته يكتسب أهمية قصوى في تحقيق عملية الإنتقال إلى الشكل الدستوري، وأن تشكيل المؤسسات الأهلية لم يعد ترفا ومطلبا مؤجلا، بل أمرا ملحا لتنظيم العلاقة بين المجتمع وبين بنائه الفوقي. فهذه المؤسسات هي التي سوف تكون المعبر الحقيقي عن الرأي العام، وتلفت الإنتباه، من خلال قنواتها، إلى أوجه القصور والتقصير في ممارسة السلطات التنفيذية والتشريعية. وفي مجتمع دستوري ستخلق قوة ضغظ حقيقية باتجاه تحقيق مصالح الجمهور، وتفتح أعين المعنيين من الجهات الرسمية على مصالح لم تكن تراها أو أنها تتجاهلها لأسباب أو أهواء أو ظروف خاصة بها.

 

إن مهمة مؤسسات المجتمع المدني هي الحفاظ على السلم الإجتماعي، وتحقيق التوازن بين السلطة والجمهور، والعمل على تحقيق انسجام سياسات السلطة مع الأحاسيس والمشاعر والمزاج العام للشعب. وإذا ما عجزت السلطة عن التنبه أو الإنسجام أمام قوة ضغط رأي عام تكشفت له بوضوح أهدافه ومصالحه واقتنع بها، أو تحركت قواه لمطالب أكثر انسجاما مع أحاسيسه ومشاعره ومزاجه، فإن دور مؤسسات المجتمع المدني يجب أن يكون حاسما، وإلا فإن البديل هو سيادة الوسائل غير المشروعة، وانفراط السلم وغياب الأمن.

 

هكذا لجأت شعوب كثيرة إلى التمرد، في ظل غياب مؤسسات المجتمع المدني، حين وجدت أن حاكمها فقد وعيه بمصالحها الوطنية، وضيع صلته بها، ومن ثم كانت النتيجة أن سادت الفوضى وحل الدمار، وسقطت شرعية الحاكم المستمدة من إرادة وسيادة مواطنيه. وهكذا فإن الجميع سوف يكونون في أمان وسلام إذا اعتمدت سياسة النظام على الاعتراف بأهمية دور المؤسسات الأهلية في التنبيه وتحقيق الانسجام، وحالت دون أن تتحول علاقتها بالجمهور إلى علاقة تناقض وصدام، ذلك لأن غياب هذه المؤسسات وعجز النظام عن تغيير سياساته بما يتواءم مع المناخ العام سيضع أصحاب الحق الأصلي، في موقع يجدون أنفسهم فيه مرغمون على تغيير واقعهم بأيديهم.

 

لقد حاولت معظم الأنظمة الشمولية، فيما مضى أن تحكم قبضتها على وسائل التأثير في الرأي أو التعبير عنه من صحافة ومحطات تلفزة إلى أخر ما هو متوفر من وسائل الدعاية والإعلام، كما حاولت أن تحكم قبضتها على أجهزة القوة في الدولة من قوات مسلحة وبوليس واستخبارات، ظنا منها أن ذلك سوف يمكنها من تجنب الاستجابة لمطالب الناس، لكن ذلك حتى وإن وفر غطاء أمنيا لمرحلة، فإنه مع تصاعد أزمة النظام فقد سحره وأصبح عاجزا عن تحقيق الحماية.

 

إن الأقطار العربية دون استثناء تمر بمرحلة انتقالية يبرز فيها دور الرجل الواحد، فهي تمر بمرحلة الإنتقال من الشرعية التقليدية التي تستند فيها السلطة على قواعد القبيلة، إلى مرحلة أخرى تعتمد على الشرعية الدستورية والقانونية.

 

إن هذه الأقطار تصدمها الآن ثورة العصر الكبرى، المتمثلة في ثورة المواصلات والإتصالات، وبشكل خاص الفضائيات والإنترنيت والتقنيات الإلكترونية. وقد مكنت هذه الثورة شعوب المنطقة من التعرف على الكيفية التي يحياها الناس في مناطق أخرى متقدمة في هذا العالم. والمشكلة التي تواجهها الأنظمة في هذه البلدان أن النزعة إلى المساواة هي نزعة إنسانية لا يمكن كبتها أو تجاوزها. ومن الطبيعي أن طريقة الحياة في البلدان المتقدمة لها قوة جذب غلابة. ولاشك أن من شأن هذه التطلعات أن تخلق توترات ومشاكل اجتماعية مؤلمة. يضاف إلى ذلك كله، عنصر الإيقاع الزمني للحركة التاريخية. لقد كان أمام أوروبا وأمريكا الفرصة أن تستغرق وقتا طويلا للإنتقال بمجتمعاتها والوصول إلى ما وصلت إليه حاليا، أما بالنسبة لنا، نحن شعوب العالم الثالث، فإننا نتصارع مع قوى حية سبقتنا بمئات السنين، وعلينا إذا ما أردنا أن نعيش بحرية وكرامة وجدارة أن نلحق بهذا العصر، وأن نسابق الزمن. ولذلك فليس أمامنا، ونحن نواجه جملة كبيرة من المصاعب سوى فتح الأبواب وأن نحاول حل جل مشاكلنا عن طريق الحوار.

 

فبالحوار، والحوار وحده تستطيع الشعوب وعي مشاكلها، وإيجاد الحلول المناسبة لها، واكتشاف طرائق بديلة أفضل لمواجهة قضاياها، وسوف يكون بمقدورها التوصل إلى جواب تتفق فيه، على الأقل بالحدود الدنيا حول مسالة الهوية، وقضايا التنمية، وحقوق المرأة ومسألة التوازن الإجتماعي، وثورة التطلعات، والإنتقال بالدولة من النمط التقليدي إلى النمط القانوني والدستوري. لا بد من إعمال الفكر باتجاه إيجاد حلول عملية للمشاكل التي تواجهنا، والحرية هي شرط إعمال الفكر.

 

لا مناص إذا من تفعيل الحوار وتدشين مؤسسات المجتمع المدني.

 

ـــــــــــــــــــ

 

yousifsite2020@gmail.com

 

 

 

 

د. يوسف مكي

تاريخ الماده:- 2003-12-03

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

ثلاثة عشر + 12 =


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.

د.يوسف مكي