ملاحظات أخيرة حول الإستراتيجية القادمة للنضال الفلسطيني
الآن وقيادات السلطة الفلسطينية تتجه بسرعة نحو إجراء الإنتخابات لرئاسة السلطة الفلسطينية، وانتخاب رئيس لمنظمة التحرير، خلفا للقائد الراحل ياسر عرفات، والتهيؤ للعودة ثانية إلى طاولة المفاوضات مع الكيان الصهيوني، من أجل التوصل إلى اتفاق حول انسحاب قوات الاحتلال من قطاع غزة، ومناقشة تنفيذ اتفاقيات أوسلو، فيما يتعلق بالضفة الغربية والقطاع، وبقية القضايا المعلقة، فلعله لا تزال هناك فسحة من الوقت للتأكيد على بعض الثوابت الوطنية، ومستلزمات المرحلة القادمة، قبل أن يفوت الأوان، ويحدث ما لا تحمد عقباه.
ومن المؤكد أن وضوح الرؤية، وتحديد الأهداف قبل الانطلاق لصياغة الإستراتيجية النضالية، ينبغي أن تكون سابقة على ما عداها من الخطوات. ولا شك أن الوضع الفلسطيني، ضمن الظروف الإقليمية والدولية الراهنة، هو بالغ التعقيد، لكن ذلك لا يعني بأية حال أن الفلسطينيين لا يملكون أوراقا قوية وفاعلة في الصراع مع المشروع الصهيوني. والمهم في إدارة الصراع أن يستوعب كل طرف من أطراف المعادلة نقاط قوته ونقاط ضعفه، فيعمل على استثمار نقاط القوة، والتغلب على نقاط الضعف، ومحاولة قلبها إلى نقاط قوة.
بالنسبة للصهاينة، اعتمد مشروعهم منذ البدء على عدم اعتماد صياغة نهائية لاستراتيجيتهم. إن المشروع الصهيوني، يعتمد على السرعة في الحركة، واستمرار حيوية وديناميكية القرار، رغم أن البوصلة في النهاية تعتمد منهج التوسع، وتبيح من أجل ذلك استخدام كافة المحرمات، القانونية والأخلاقية، في الوقت الذي تحاول بكل قوة، أن تحرم الخصم من استثمار أية مكاسب، وعدم إقامة أي وزن أو اعتبار للإتفاقيات والمواثيق التي تتوصل إليها مع الخصم.
والإستراتيجية الصهيونية، تقوم على أن مشروعها هو في منطلقاته مشروع حرب، قام على الاغتصاب والتشريد، وأن ضمان استمراريته وفاعليته، يقتضي استمرار حالة الحرب. وحين يجري توقف استخدام البندقية، وهو ما لم يحدث في تاريخ الكيان الصهيوني، إلا نادرا جدا، فإن ذلك يجري استبداله بالعصبية الدينية والعنصرية، ومصادرة الأراضي وهدم البيوت والزج بالمقاومين في السجون والمعتقلات، ومضاعفة بناء المستوطنات. وجميعها ممارسات تدخل ضمن سياسة استمرار مشروع الحرب.
في هذه المرحلة تستند الاستراتيجية الصهيونية على مجموعة من العناصر، يأتي في المقدمة منها القضاء على الانتفاضة الفلسطينية بكافة الأشكال والسبل. وقيام سلطة فلسطينية، يجري تفصيل هياكلها وتحديد صلاحيتها، وسياساتها، والعناصر المتنفذة فيها، بل ومساحتها، والمعابر والمنافذ المؤدية لها، بما يتفق مع أمن ومصالح الكيان الصهيوني. إن هذه السلطة ستتشكل من كانتونات متناثرة، تطل على كل المدن الرئيسية فيها جملة من المستوطنات الإسرائيلية لضمان إحكام القبضة عليها. وتكون مهمة السلطة فيها هي لعب دور الشرطي والحارس للأمن الإسرائيلي، كما يكون التطبيع معها، وسيلة للاختراق للأقاليم العربية، في مختلف الإتجاهات، وصولا إلى تحقيق مشروع الشرق الأوسط الكبير، والإختراق الإقتصادي الصهيوني لكامل الأرض العربية. وضمان التفوق العسكري الإسرائيلي على كافة الأقطار العربية مجتمعة. بل والعمل على جعل إسرائيل دولة كبرى في المنطقة، وهو ما لا يمكن تحقيقه إلا بالعمل على تعميم حالة التشظي، والعمل على إغراق المنطقة بأسرها في صراعات إثنية وطائفية، بدأت ملامحها للأسف تلوح في الأفق في عدد من الأقطار العربية. إن هذه الخطوات هي ضمانة الصهاينة لإرغام العرب، والفلسطينيين منهم بشكل خاص على التخلي عن حق العودة، وإلغاء الهوية العربية الإسلامية لمدينة القدس.
لا بد أن يواجه هذا المشروع باستراتيجية قابلة ليس فقط للصمود في وجه الإستراتيجية الصهيونية، بل والتغلب عليها وهزيمتها. ولا بد من استثمار نقاط القوة عند العرب لهزيمة هذا المشروع. ومقدمات هذا المشروع، يجب أن تنطلق من حقيقة أن المشروع الصهيوني هو في أساسه غير واقعي وقائم على أسطورة يرفضها العلم والتاريخ، وهو في طبيعته عنصري وتوسعي، وجزء من الميراث الاستعماري الاستيطاني الغربي. ومن هنا يجب أن تتحلق في مواجهته مختلف قوى الممانعة على اختلاف توجهاتها وعقائدها الدينية والسياسية. إن ما يجعل العرب في موقع القوة، هو أنهم يملكون عمق التاريخ والجغرافيا، والمدى الإستراتيجي والكثافة السكانية في الصراع. والمؤكد أن الصهاينة، حتى لو استطاعوا أن يلحقوا مائة هزيمة عسكرية بالأمة العربية، فإنهم لا يمكنهم تركيع العرب، متى ما امتلكوا العزيمة والإرادة، في حين يكفي الصهاينة هزيمة واحدة، لكي ينتهي مشروعهم إلى الأبد. وإذا ما امتلك الصهاينة الآن، ناصية العلم والتكنولوجيا والقوة العسكرية، فإن ذلك ليس قدرا مقدرا على العرب، والمستقبل، ضمن ما هو منظور حاليا، ينبئ بهزيمة مشروعهم، على كل الأصعدة، بما في ذلك صعيد الديموغرافيا والإستراتيجية والقوة الاقتصادية والسياسية، ومختلف عناصر القوة الأخرى.
ولذلك كله، فإنه لا يوجد ما يجبرنا نحن العرب، في هذه المرحلة، نحو تسوية الصراع السلمي مع الكيان الصهيوني، والرضوخ لشروطه وبرامجه. إن الصهاينة يلهثون للحصول على أقصى المكاسب من الأمة العربية، دون أن يقابل ذلك أي تسليم من جانبهم بحقوق الفلسطينيين.
سيقال لنا إن الإسرائيليين لا يمكنهم القبول بحق العودة للفلسطينيين، لأن ذلك يعني تدمير كيانهم. وربما يكون ذلك صحيح، ولكن تخلي العرب عن حقوق الشعب الفلسطيني، هو أيضا تفريط بالأرض والكرامة والثوابت الوطنية، ونحن مسئولون بالدرجة الأولى عن حماية حقوقنا ومستقبلنا، وليس ضمان حق المغتصبين واللصوص.
إن الإستراتيجية الفلسطينية في المرحلة القادمة ينبغي أن تتبنى سياسة النفس الطويل، وتعمل على فرز المهمات، وتحديد دور ومهام كل خندق من خنادق الكفاح الفلسطيني، والزج بمختلف طاقات الشعب الفلسطيني، والعربي، وبشكل خاص الفلسطينيون في مخيمات اللاجئين ومناطق الشتات، لمواجهة المشروع الصهيوني. وعلى رأس أولويات ما يقتضيه ذلك هو التسليم بالقيادة الجماعية، والإمتناع عن سياسة الإقصاء والإستفراد بالسلطة، والتمييز بين دور السلطة الفلسطينية في قطاع غزة والضفة الغربية، وبين دور منظمة التحرير الفلسطينية التي ينبغي استمرار التزامها بالميثاق الوطني الفلسطيني، دون تغيير، أو تحايل على النصوص.
ولعل الخطوة الأولى في هذا الاتجاه، هي أن يجري عقد المجلس الوطني الفلسطيني، خارج الأراضي المحتلة، بعيدا عن الهيمنة والضغوط الإسرائيلية. وأن لا يكون زعيم منظمة التحرير الفلسطينية، هو ذاته رئيس السلطة الفلسطينية، نظرا لاختلاف المهام التي تقوم بها المؤسستين، حتى وإن كان الدور تكامليا في النهاية. وفي هذه اللحظات المصيرية، ينبغي الحرص على تحقيق الوحدة الكفاحية، في الداخل بين مختلف الفصائل الفلسطينية، بما في ذلك قوى الرفض والممانعة. وأي تكن الإستراتيجية التي يتفق عليها الفلسطينيون، وسواء كانت باتجاه الحل السلمي، أو الاستمرار في الانتفاضة بالعصيان المدني أو العسكرة، فإن ذلك يجب أن يتم ضمن إجماع فلسطيني، يخضع ويلتزم به الجميع.
ويبقى بعد ذلك، التركيز على التمسك بحق العودة، والتمسك بعروبة القدس. وفي هذا الإتجاه ينبغي التنسيق مع الدول العربية، والإتفاق معها على رفض سياسة توطين اللاجئين الفلسطينيين في بلدانها. وتحذيرها من مغبة مخاطر ذلك على الأمن الوطني والقومي للبلدان العربية. وعلى صعيد عروبة القدس، ينبغي دفع المنظمات والهيئات العربية والإسلامية الرسمية وغير الرسمية للإضطلاع بدورها. ولعل هذا هو الوقت المناسب لقيام حملة عالمية بهدف التركيز على عروبة القدس، وحمل دول العالم على رفض المشروع الصهيوني باعتبار القدس الموحدة عاصمة أبدية للكيان العبري. وعلى الصعيد ذاته، ينبغي التركيز على مخاطر بقاء اللاجئين الفلسطينيين في مخيماتهم وحرمانهم من العودة إلى ديارهم على الأمن والسلام العالميين. إن الحقوق لا تسقط أبدا بالتقادم، وحق الفلسطينيين في ديارهم وتقرير مصيرهم وقيام دولتهم المستقلة، حق كفلته القوانين الدولية ومبادئ الأمم المتحدة وشرعة حقوق الإنسان، ينبغي التمسك به والإصرار عليه، وعدم التفريط به أو المساومة عليه. وذلك هو أيضا ما ينبغي أن يكون جوهر استراتيجية النضال الفلسطيني في المرحلة القادمة.
د. يوسف مكي
تاريخ الماده:- 2004-12-01