مقاومة الأنبار وأوهام الاحتلال
وأشرنا إلى أن حملة الترويج والتطبيل التي مارستها الإدارة الأمريكية، حول نجاح الخطة الأمنية، وربط عملية تراجع العمليات العسكرية بمحافظة الأنبار بالخطة الأمنية فيها كثير من المبالغة والمغالطة. إن تراجع عمليات المقاومة للاحتلال في محافظة الأنبار ليس له علاقة مباشرة بخطة إدارة الرئيس بوش الأمنية، وإن مرده لحقائق أخرى قدمنا لها بوجود مدرستين رئيستين فيما يتعلق بمواجهة ومناهضة الاحتلال. إحداهما مدرسة المقاومة، ولخصنا برنامجها في تحرير العراق، وعودته بلدا عربيا مستقلا والأخرى، تنظيم القاعدة، وبرنامجه هو الاستمرار في استنزاف القوات الأمريكية وليس طردها. إن تحقيق السلام في العراق، والتوقف عن مقاتلة الأمريكيين، حتى بعد التحرير، من وجهة النظر هذه هو خروج على الثوابت الجهادية. ومن هنا كان لا بد من التصادم بين برنامجي التحرير والاستنزاف.
ورغم أن طرفي المقاومة والاستنزاف حاولا تأجيل الصراع بينهما، والتركيز على المواجهة العسكرية مع المحتل، والتنسيق فيما بينهما من خلال المشاركة في مجلس شورى المجاهدين، لكن مقدمات الصراع بينهما بدت مبكرة، منذ أكثر من ثلاثة أعوام، حين جرى صدام عسكري عنيف استمر لعدة أسابيع في مدينة القائم قريبا من الحدود السورية، ومن ثم في مدينة تلعفر. وقد حسمت المعارك لصالح المقاومة، وطرد مقاتلو القاعدة إلى حين من المدينتين. لكن يبدو أن الطرفين توصلا، فيما بعد، إلى هدنة مؤقتة بينهما، وواصلا عملهما العسكري ضد قوات الاحتلال.
في هذا السياق، يجدر الانتباه إلى أنه كانت هناك أيضا نقطة خلاف حادة أخرى بين نهجي المقاومة والاستنزاف من حيث لغة الخطاب، وفهم طبيعة الصراع. لغة الخطاب المقاوم هي لغة توحيدية، تتوجه لكل العراقيين، بغض النظر عن طوائفهم ومذاهبهم وإثنياتهم، في حين يتوجه خطاب القاعدة إلى المسلمين من “أهل السنة”. بمعنى آخر، إن لغة خطاب القاعدة تتماهى في النتيجة، وبغض النظر عن النوايا، مع لغة التفتيت والمحاصصات الطائفية التي حرض عليها المحتل وحلفاؤه، وبموجبها برز الدستور والفيدرالية. إن هذا الخطاب التفتيتي، يبدو كرد فعل على خطاب آخر، تفتيتي أيضا فرضه وجود الاحتلال، والقوى الطائفية التي تسنده في المجلس الأعلى الإسلامي، وحزب الدعوة، والتيار الصدري. ومن هذا المنطلق، كان للقاعدة دور متجانس مع دور فرق الموت التي تقتل على الهوية. مجازر وقتل على الهوية تمارسها المليشيات الشيعية تقابلها سيارات مفخخة وقتل على الهوية يمارسه تنظيم القاعدة.. والنتيجة مزيد من القتلى في صفوف المدنيين العراقيين، وتقسيم العراق إلى كانتونات مذهبية، وطرد المواطنين من مساكنهم، واستعار عملية التطهير الطائفي في عدد كبير من المدن العراقية.
أمام هذه الحقائق، كان احتدام الصراع بين المقاومة والقاعدة أمرا طبيعيا. وحين أعلنت القاعدة قيام دولة العراق الإسلامية، انطلاقا من محافظة الأنبار، أصبح محتما أن تبدأ المواجهة العسكرية بين الاتجاهين. وقد ساهم سلوك مقاتلي القاعدة تجاه السكان، المتسم بمحاولة فرض تقاليد إمارة طالبان، في تربة غير تربتها، في خلق حالة رفض لوجود عناصر القاعدة في تلك المنطقة. وكانت مؤشرات رفض المواطنين لهم قد أصبحت ملحوظة في الشهور الأخيرة من حياة زعيم القاعدة في بلاد الرافدين، الزرقاوى، مما أضطره لنقل مركزه إلى بعقوبة، حيث تمكنت قوات الاحتلال من النيل منه، وقتله.
الصراع بين المقاومة والقاعدة، كان من أبرز نتائجه انشغال المقاتلين ببعضهم بدلا عن مواجهة المحتل. وقد ساهم ذلك القتال في بروز حالتين جديدتين. الأولى هي تراخي العمليات المقاومة للاحتلال. وقد أتاح ذلك فرصة للأمريكيين لإعادة ترتيب أوراقهم في منقطة كانت من أصعب مواقع المواجهة بالنسبة لهم، وكانت حتى وقت قريب محرمة عليهم. والثانية، هي سيادة حالة من الغضب واليأس بين المواطنين الذين رأوا انشغال المناهضين للاحتلال بقتال بعضهم بعضاً، بدلا عن تصويب بنادقهم إلى العدو، والذين أثيرت حفيظتهم نتيجة سلوك عناصر القاعدة، ومحاولتهم فرض ثقافة أخرى، على أهل الأنبار لا تتناسب مع بيئتهم ومستوى وعيهم.
ومع استمرار الصدامات داخل ميدان المقاومة، واسترخاء الفعل المقاوم ضد الاحتلال، وسيادة حالة من الضجر واليأس في أوساط الناس بمحافظة الأنبار، انفض بعضهم من حول حركة المقاومة، مما أفقدها حاضنها الشعبي الضروري لنموها وصمودها، وتوفير الملاذ الآمن لمقاتليها. وفي هذا المناخ، تمكنت الإدارة في العراق من استقطاب قلة من شيوخ العشائر، كان في مقدمتهم الشيخ عبد الستار أبو ريشه الذي اغتيل مؤخرا.
هكذا جيرت إدارة بوش هذا التطور الموضوعي لصالحها، وحاولت إقناع الأمريكيين أنه نجاح باهر لمخططاتها. وعند زيارة الرئيس الأمريكي، بوش قاعدة الأسد الأمريكية بالأنبار تعمد استقبال الشيخ عبد الستار أبو ريشة وبثت الفضائيات صورتهما معا. واستغل تقرير كروكر وباترويس ذلك الحدث، موحيا بأن ما حدث بالأنبار سيكون نموذجا لشيخ القبيلة السني الصديق والمتعاون مع الاحتلال في أكثر مناطق العراق رفضا للوجود الأمريكي. وقد أشير إلى أن هذا النموذج سوف يجري تعميمه سريعا في المناطق المقاومة الأخرى: نينوى وديالي وصلاح الدين.. لكن الصورة التي أريد لها أن تكون شارة كبيرة للنصر، لم يقيض لها أن تستمر طويلا، فقد تم اغتيال الشيخ بعد أقل من عشرة أيام على لقائه التاريخي ببوش، وأجهض الحلم الأمريكي في مهده.
كانت الإدارة الأمريكية قد تمكنت فعلا، بسبب من التطورات التي حدثت بالأنبار من تحقيق اختراقات واضحة مستخدمة لغة العصا والجزرة، فمن جهة شهدت المحافظة عنفا فاق في قسوته ووحشيته ما شهدته المحافظات العراقية الأخرى، حيث عانت مدينة الفلوجة وحدها تدميرا منهجيا وشاملا، عدة مرات، استخدمت فيه المدفعية والطائرات، وكان المقاومون في كل مرة يبرزون من ركام أطلالها ليؤكدوا تصميم العراقيين على طرد الاحتلال. ومن جهة أخرى، استغل الأمريكيون حالة الاحتقان والغضب نتيجة اقتتال المقاومين، فقاموا باتصالاتهم، وقدموا الرشاوى والوعود بتحقيق انفراج أمني، شمل السماح للشيوخ المتعاونين مع إدارة الاحتلال بتشكيل مليشيات خاصة بهم، بمباركة وتسليح أمريكيين، في وقت ارتفعت فيه الأصوات بعموم العراق منادية بحل المليشيات. وتزامن ذلك بوعود أخرى، كالإفراج عن بعض المعتقلين، وإعادة النظر في تركيبة الجيش والأجهزة الأمنية وقانون اجتثاث البعث.
لكن إدارة الاحتلال، تتناسى عن عمد أن ما جرى بالأنبار، ليس نهاية المطاف، وأن هناك إرثا مقاوما قويا في هذه المحافظة التي عرفت بصولاتها وجولاتها في مقاومة البريطانيين إثر احتلالهم للعراق في الحرب العالمية الأولى، والمراحل التي أعقبتها، والاحتلال الأمريكي منذ نيسان/ أبريل عام 2003. وكانت الإشارة إلى المثلث السني تعني في الغالب إشارة إلى بطولات الأنبار ومقاومتها الباسلة. ولا يريد الأمريكيون أن يستذكروا من الوقائع والأحداث إلا ما ينسجم مع أوهامهم. فمثل هذه الحالات، حدثت أثناء مقاومات أخرى للاحتلال في عدد من البلدان التي قاتلت الاستعمار التقليدي، في الجزائر وفيتنام والجنوب اليمني، ولكن حركات التحرر الوطني تمكنت في النهاية، بصمودها وتضحياتها، من انتزاع الاستقلال. وإذن فالعبرة دائما بالنتائج.
أوهام الاحتلال تغيب عن عمد أيضا حقيقة وجود أكثر من 30 ألف عسكري أمريكي و15 ألف من المرتزقة، بكامل معداتهم العسكرية، ومعهم ما لا يقل عن 10 آلاف من فيلق بدر ومغاوير داخلية وجنود. وأنه رغم كل ما قيل عن مقاتلة أهالي شيوخ الأنبار للمقاومين، فإن العدد الذي تمكن الأمريكيون من حشده، من أهالي تلك المحافظة لم يتجاوز الـ 400 فرد، تجاوزت كلفة تجنيدهم ملايين الدولارات على شكل هبات ورشوات للأفراد المتعاونين مع الاحتلال. وإذن فنحن نتحدث عن وجود أكثر من 55 ألف مقاتل، في منطقة هي من أقل المحافظات في كثافتها السكانية.. وضمن السياق الموضوعي الذي جرى تفصيله. لا يشير تقرير باتريوس وكروكر ولا خطاب بوش إلى أن ما يدعى بنجاح الخطة الأمنية يعني أن تبقى هذه القوات رهينة إلى ما لا نهاية بيد المقاومين العراقيين.
هناك بوادر على أن موسم الوهم الأمريكي لن يستمر طويلا. فمن جهة، عاودت البيانات العسكرية الأمريكية مؤخرا إشاراتها إلى استمرار عمليات المقاومة بمحافظة الأنبار، ومن جهة أخرى، وجهت هيئة علماء المسلمين رسالة إلى قوى المقاومة داعية إلى الوحدة والتضامن، والاستمرار في مناهضة الاحتلال. وبالتزامن مع هذه التطورات أعلن مؤخرا عن تشكيل جبهة الجهاد والتحرير من عدد من فصائل المقاومة وعلى رأسها كتائب ثورة العشرين وجيش الراشدين بهدف طرد الاحتلال، وتحريره من الوهم.
ستعود، في القريب العاجل، بإذن الله بلاد ما بين النهرين حرة عربية مستقلة..
yousifsite2020@gmail.com