مقاربات حول علاقة الجغرافيا
تناولنا في أحاديث سابقة، نشرت في عدد من الصحف العربية، علاقة الجغرافيا بالتاريخ، وكان اهتمامنا قد تركز، على أثر الجغرافيا في صناعة التاريخ. ونزعم في هذا الحديث، أن استصدار قانون يضع التاريخ دائماً في صيغة المفعول به، هو تجريد وتبسيط مبالغ فيه، لأن كثيراً مما لدينا عن الجغرافيا هو محصلة لعمل تاريخي قدم لنا من خلال أدوات ومناهج تاريخية، وجرى توصيفه وتدوينه بعيون مؤرخ.
فعلى سبيل المثال، يذكر لنا التاريخ المصري، عن حادثة كيلوباترا، وقصة غرامها مع أنطونيو، وتأثير ذلك في الأسرة البطلمية الحاكمة وبالتالي في مجمل التاريخ المصري القديم. وعبر فترة طويلة من الزمن، كان التاريخ هو مصدرنا الوحيد على الموقع الجغرافي لحادثة اللقاء التاريخي الشهير بين كلا العاشقين. وقد كان ذلك اللقاء، وموقعه، وما صاحبه من دراما عاطفية، ملهماً لكثير من الأدباء والشعراء العرب والأجانب، من الشاعر الإنجليزي العظيم وليام شكسبير، إلى أمير الشعراء أحمد شوقي.
وقبل سنوات عدة، نقلت لنا الأنباء خبر تمكن بعثة آثار فرنسية مصرية مشتركة من اكتشاف مدينة مغمورة في البحر الأبيض المتوسط، شمالي ميناء الإسكندرية، يعتقد أنها كانت الموقع الذي حكمت منه كيلوباترا سائر أرجاء مصر، وإذا ما ثبت صحة هذه الاكتشافات، فإن ذلك يعنى إعادة صياغة الحادثة التاريخية بما يتوافق مع الاكتشافات الجديدة، ولعل أهم ما أكدته لنا تلك الاكتشافات، هو رفض فكرتي السكون والثبات في هذا العالم، فما كان على اليابسة، قبل أربعة آلاف عام من عمر التاريخ أصبح مغموراً تحت الماء. وربما وضعت تلك الاكتشافات علامات استفهام كبيرة على الموقع، وعلى الحدث الذي شكلت تفاصيله محفزات لأعمال أدبية ملحمية. هكذا تفرض الجغرافيا على الباحثين إعادة صياغة التاريخ. على أن ذلك لن يحسم المسألة، إذ إن التاريخ سيبقى ولفترة طويلة، مصدرنا الرئيسي عن كثير من القضايا الجغرافية، حتى يتوفر لدينا التصميم وأدوات الكشف اللازمة والقدرة، لتحقيق التجانس بين نتائج كلا المفهومين.
وفي العصر الحديث، يمكن أخذ قناة السويس كمثال على الفعل الإنساني، والإنجاز التاريخي الذي تتداخل فيه الجغرافيا بالتاريخ. ذلك لأن القناة في واقع الحال، هي موقع جغرافي استراتيجي، وهي أيضاً عمل تاريخي، ارتبط بمرحلة تاريخية محددة. ومثل هذا القول، يصدق على السد العالي بأسوان الذي هو أيضا جغرافيا وتاريخ. جغرافيا من حيث موقعه ودوره وأهميته الاستراتيجية، وتاريخ لكونه نتاج مخاض ونهوض وبرامج تنموية ارتبطت بحقبة تاريخية من حياة مصر، وساهمت طبيعة اللحظة ومعطياتها، وما ارتبط بها من شحنات إنسانية عاطفية، وما صاحبها من ملاحم بطولية وعنف وصراعات مصالح محلية ووافدة، وهو تاريخ أيضاً بفعل ما تراكم على تلك اللحظة من حوادث وأبعاد زمنية.
وعرفت دائرة المعارف البريطانية التاريخ بأنه العلم الذي يستخدم للإشارة إلى معنيين: الأول: الأفعال والأعمال التي شكلت مجتمعة ماضي الإنسان. والثاني: ال
يمة التي يعطيها المؤرخ إلى البحث عن الماضي كما وصل إلينا. والمعنى الثاني، كما هو واضح، يحاول أن يجعل دراسة التاريخ موضوعاً في الفلسفة، إذ أنه لا يكتفي بمناقشة الحوادث كما جرت حقيقة، ولكن يدرسها ويشرحها ويوضح أسباب وقوعها.
والمؤرخ هو الذي يتولى تدوين التاريخ، ويمد بما يتوفر من معلومات عن الزمن الغابر، إلا أننا في الأغلب لا نميز، عند قراءتنا للتاريخ بين شيئين مختلفين: مجموع أحوال الكون في زمان غابر، ومجموع معلوماتنا حول تلك الأشياء. والتاريخ العام، هو مجموع الأحوال التي عرفها الكون حتى اللحظة، أما ما هو مدون لدينا، فهو مجموع ما تمكن الإنسان من اكتشافه وتدوينه، وهذا يعني أن هناك فارقا ًكبيراً بين ما هو حقيقة وما هو مدون. ولهذا فإن من الأهمية أن يستمر النضال الإنساني المعرفي لتحقيق التطابق بين الواقع والمعلوم.
وأخبار الماض
ي لا تعني شيئاً لنا، إن لم تكن ماثلة في ذهننا الحاضر، ومعرفتنا بها هي معرفة نسبية، لكونها ذات صلة مباشرة بفهم ومتطلبات الوضع القائم، كما أن مهمتها هي الإجابة عن أسئلة حالية. فالماضي إذاً، موجود في الحاضر في شكل خبر، والكلام عن الماضي هو نوع من المشاهدة، إذ إن ما يبقى منه هو الأخبار المعاصرة الدالة عليه. والمؤرخ حين يقارن بين حوادث الماضي ويستخلص منها الدروس والعبر، فإنه بذلك يوجه رسالة، ولذلك جعل القدماء من التاريخ مدرسة تابعة للسياسة والأخلاق. وذلك يبدو أمراً منطقياً، فالوعي بالقدرة على الترجيح والاختيار يفترض فيه أن يكون متلازماً بالملاحظة والاستنباط.
وكان فلاسفة اليونان هم أول من اهتم بمحاولة وضع قانون لحركة التاريخ، وربط علم التاريخ بالفلسفة. فقد اشتهر عن هرقليطس رفضه لفكرة أن التاريخ يعيد نفسه، وعرفت عنه مقولته الشهيرة «إنك لا تستطيع أن تسبح في نفس ماء النهر مرتين»، رافضاً بذلك ثبوت التاريخ، وميكانيكية حركته. أما أرسطو فقد أشار في كتابه السياسة في معرض دراسته لطبيعة الدولة إلى وجود نظام في الكائن العضوي يتيح له الانتقال من مرحلة إلى أخرى، يبدأ بالولادة ثم النضج فالاضمحلال، وإلى أن كل مرحلة من مراحل التاريخ تختزن في باطنها حافز نشوء المرحلة التي تليها.
وقد أشار العلامة ابن خلدون إلى أن الظواهر الاجتماعية وحوادث التاريخ لا تأتيان من فراع، ومؤكداً في الوقت نفسه على أهمية وعي خصوصية البيئة التي نشأت فيها الحادثة.
صحيفة الخليج الإماراتية