مع إطلالة العام الجديد لنعمل سويا من أجل إعادة الإعتبار للإنسان
مع إطلالة العام الجديد يبدو المشهد العربي كثيب ومحزن يعيد إلى الذاكرة ما كنا نقرأه في كتب التاريخ عن حالة التشظي والتمزق والضياع التي عاشتها الأمة العربية إثر تداعي دور الخلافة العباسبة. صراع قبائل وعشائر وعساكر يتطاولون على حقوق الناس، وعبيد يشترون من سوق النخاسة لينصبوا حكاما هنا وهناك، وبقايا من أسر حاكمة تتطاحن على الملك في هذه القرية أو تلك، فتبرز مماليك حمدانية وسلجوقية ومملوكية.. والقائمة طويلة، وكان احتلال عاصمة الرشيد “بغداد” من قبل هولاكو ودخول التتار هذه المدينة وإغراق دجلة بكتبها وإبداعاتها هو التجسيد العملي لحالة الإنهيار.
الآن يتكرر المشهد، ولكن بشكل سيريالي وأوسع، يشمل الوطن العربي بأسره من البحر إلى البحر، وبشكل ليست له سابقة في تاريخنا.
فمن كان سيتصور، أن يتجرأ مسؤول عربي، منتفخة أوداجه، ونحن في القرن الواحد والعشرين من الميلاد، بالإعلان جهارا وفي وضح الشمس عن عمالته واستعداده لتنفيذ إملاءات الأجنبي معتبرا ذلك شكلا جديدا من أشكال الوطنية الشفافية والديموقراطية”
ومن كان سيتصور أيضا أن يجري التشكيك في المقاومة الفلسطينية وأن تتحول دماء الشهداء إلى أوراق تفاوضية تجري المساومات عليها، والمعروض في الأسواق أقل من الثمن البخس؟ ومن كان سيملك القدرة على التخيل أن الأرض العربية ستعتبر أرضا مباحة تعربد فيها الطائرات الأمريكية للإعتداء على أهلنا وأشقائنا.. في القرى والمدن العراقية ولمقاومة ما يدعى “بالأرهاب” على أرضنا. ومن كان سيعتقد في يوم من الأيام أن الزعماء العرب سيعتبرون رفض الإحتلال الإسرائيلي ومقاومته، والدفاع عن الأرض والشرف والعرض والكرامة خرافة وشيئا من الماضي “المقيت”؟.
والغريب أنه في ظل الإعلان الصريح عن العزم على احتلال العراق والنوايا العدوانية المكشوفة للولايات المتحدة فإن جميع حكامنا يعيدون، دون ملل أو سأم تكرار اسطوانتهم المشروخة أن علاقاتهم مع الإداراة الأمريكية هي علاقة استراتيجية وراسخة ولا تهزها الرياح، في حين تعلن إدارة الرئيس جورج بوش والمسؤولون التابعون لمؤسسته أن الديموقراطية لن تستقيم في هذا الجزء من العالم ما لم يتم إسقاط الأنظمة الغارقة في تخلفها وجهلها والداعمة للإرهاب، بعد أن اكتشفت مؤخرا أن تلك الأنظمة ليست ديموقراطية ولا تلتزم بحقوق الإنسان. ليس ذلك فحسب، بل وتنشر الإستخبارات الأمريكية مخططات ودراسات وبرامج لإعادة تشكيل الخريطة السياسية للوطن العربي، بشكل دراماتيكي لم تشهده المنطقة منذ الأيام الأخيرة للحرب العالمية الأولى حين وقعت اتفاقية سايكس بيكو التي جرى بموجبها تقسيم الوطن العربي حصصا بين البريطانيين والفرنسيين.
أما التحيز للكيان الصهيوني فقد أصبح فضيلة تحسب للحكام للعرب، تعتبر بوصلة لمستوى تمسكهم بالديموقراطية والتزامهم بالشفافية وحقوق الإنسان، ويثابون عليها من قبل العام سام بتوصيفات لا تدخل في معجم أو منطق.
إستمع إلى نشرة أخبار واحدة فقط من إحدى الفضائيات العربية وستسمع بالتأكيد التالي، مجازر في الجزائر، قتل لأطفال في فلسطين، اغتيال في اليمن، هجوم بالطائرات على مناطق الحظر الجوي في شمال العراق وجنوبه، أطفال عراقيون يموتون من الجوع وبسبب الحصار الذي استمر أكثر من 12 عاما، سقوط عبارة أو حافلة في مصر، احتراق سجن بالمغرب، حرب في جنوب السودان، اعتقال مناضل تجرأ على ترشيح نفسه لرئاسة الجمهورية، متنكرا لكرامات الرئيس الملهم هنا وهناك، قمع للحريات في كل مكان.. قطر أولا، الأردن أولا، وبلاد الواق واق أولا.. إغلاق فضائتين لبنانيتن، منع صحف عن الصدور، حل حزب معارض تجرأ على المطالبة بالإصلاح، ورفض التصفيق للزعيم.. عودة المفاوضين الفلسطينيين والإسرائيليين.. الدرع الواقي.. الطريق الوافي.. عودة المبعوث الأمريكي للسلام. لجان التفتيش عن الأسلحة تستجوب عالم الكيمياء في العراق.. السوريون يخبؤون أسلحة العراق… إعلان لإفلاس الخزينة الخليجية وانهيار للإقتصاد اللبناني..
لكن من المؤكد جدا، أنك لن تسمع إدانة واحدة رسمية.. نعم واحدة فقط للإعتداءات اليومية المتكررة على وجودنا، ولن تجد زعيما عربيا واحد يسلم بحقنا في المطالبة في أن نكون بشرا أحرارا.. بل مجرد بشر!
وتقوم الفضائيات العربية، بدور رائد في إضعاف مواريثنا وإرادتنا ومقاوماتنا، بعد أن أصبح مجرم الحرب إرييل شارون ونتنياهو وموفاز وبيريز وبقية العتاة الصهاينة يتناولون الطعام معنا، ويشاركوننا صالات جلوسنا وغرف نومنا.. حيث لا تكاد تسمع نشرة أخبار إلا وهناك صهيوني يقرأ ويحلل.. يشتم الجميع ويتهم العرب والفلسطينيين بالقسوة والتفنن في قتل النساء والأطفال والمدنيين الصهاينة.
ونحن لا نزال في واقعنا المحلي، نعيش عقلية داحس والغبراء، حيث يتبارى الزعماء العرب الغيارى على وطنهم وكرامتهم باستدعاء هذا السفير أو ذاك من هذه العاصمة العربية أو تلك لأن فضائية عربية تجرأت بالتعرض للأوضاع الداخلية في بلاده، وميثاقي التضامن العربي والأمن القومي الجماعي، قد دفنا إلى الأبد من برامجنا وتقاليدنا. أما التنمية الإجتماعية وبناء الإقتصاد ومناقشة قضايا الديون المستفحلة فمشاريع مؤجلة إلى حين تنتهي حروبنا المقدسة والطاحنة مع بعض.. وحين نأتي إلى الصحة والتعليم وحقوق الإنسان والتأمين الإجتماعي، فليس عليك سوى قراءة تقرير التنمية الإنسانية العربية لعام 2002 الصادر عن الأمم المتحدة ومؤسسة الإنماء العربي لتتعرف على حجم الكارثة التي تعيشها الأمة.
وحين نأتي لحقوق الفرد فإن أصدق قول معبر هو قول الشاعر النواب: هذا الوطن العربي من البحر إلى البحر سجون متلاصقة .. سجان يتبع سجان.
كيف لنا أن نخرج من هذا المشهد السيريالي القاتم؟!
سؤال ربما تبدو الإجابة عليه صعبة للغاية، ولا شك أن للفعل الإنساني دوره الذي لا يستهان به. لكن المؤكد أيضا أن الأوطان لن يعاد لها الإعتبار إلا حين يعاد الإعتبار للإنسان..
نرجو أن يكون عامنا القادم عاما لنصرة أطفال فلسطين والعراق.. نرجو أن يكون العام القادم عاما للإرادة العربية وإعادة الإعتبار للإنسان.
تاريخ الماده:- 2003-01-04