معاهدة الشراكة الأمريكية – العراقية خرق آخر للسيادة
بغض النظر عن تفاصيل المعاهدة الأمنية التي تتعمد الأطراف المعنية بها، إخفاء تفاصيلها، وإحاطة بنودها الرئيسية بالكتمان، والحديث عنها بالكواليس المعتمة، فإنه يمكن الجزم، بأنها معاهدة يجري التباحث بشأنها بين جهات لا تملك حق التوقيع أو التصرف بشأن حاضر العراق ومستقبله. ولعل الكتمان المبالغ فيه، حول نصوص هذه المعاهدة، والذي هو نقيض الشفافية التي يجلدنا بها، ليل نهار، اليانكي الأمريكي، هو دليل آخر على أن وراء الأكمة انتهاكاً آخر لمعايير السيادة وحق تقرير المصير.
لقد ناقشنا بشيء من التفصيل، بالحديث السابق الأسباب الحقيقية لغزو العراق واحتلاله عام 2003م، وأكدنا أن ذلك حدث لسبب رئيسي واحد، لا أكثر هو السيطرة على الكنز. وأن كل الأسباب الأخرى، إن وجدت، فهي ذات صلة مباشرة أو غير مباشرة به. فالسيطرة على الكنز، هي وحدها التي تضمن بقاء القطب الأعظم، سيدا أوحد في هذا القرن، من خلال التحكم في أسعار وحجم تدفقات هذا السائل السحري، بالأسواق الدولية، وبالتالي التحكم في حجم النمو الاقتصادي، للبلدان التي بدأت مرحلة “الانطلاق” بقوة، وفقا للتنظير الروستوي. وفي مقدمة هذه الدول دول الاتحاد الأوروبي، والصين واليابان والهند، وأيضا روسيا التي بدأت تشق طريق النمو الاقتصادي بقوة، بعد عقود من الارتباك والعجز.
لكن احتلال العراق، لم يضمن للأمريكيين حتى الآن سيطرة آمنة على النفط. والإدارة الأمريكية، بحاجة إلى عقد من الزمن، على الأقل، حتى تستطيع تعويض خسائرها المالية والعسكرية في بلاد ما بين النهرين. والمكونات النفسية والثقافية، لهذا الشعب العريق، التي اكتسبها خلال تاريخ طويل، امتد من حضارة بابل حتى يومنا هذا لا تشي بإمكانية إخضاعه.
فكان اللجوء إلى حيلة خائبة، سبق أن جربها البريطانيون منذ عام 1917م، حين دخلوا العراق، منقذين ومحررين، متوقعين أن يستقبلهم العراقيون بالزهور والزغاريد، فرفض العراقيون أريحيتهم وكرمهم البرمكي، وواجهوهم بالرصاص وبالسلاح الأبيض… وحتى سكاكين المطابخ كان لها دور في مقاومة الاحتلال. وكانت انتفاضات متتالية، آخرها وثبة كانون عام 1948م، ثم كان طرد البريطانيين من قاعدتي الحبانية والشعيبة، وخروج العراق من حلف بغداد… وعودة العراق إلى الحاضرة العربية، حرا مستقلا.
الآن يعاود الأمريكيون، دون عناء قراءة التاريخ، واستلهام عبره ومواعظه، تكرار ذات التجربة التي حاول البريطانيون قبلهم فرضها على شعب العراق.
وكما في المرة الأولى، كان منطق السيادة، يطغى بقوة في صياغة معاهدات التسليم والإخضاع، حيث يتم التعامل مع دمى شمعية، صنعها المحتل، مستخدما أجهزة الرموت في تحريكها، فإن الأمريكيين يمارسون ذات اللعبة، وبأسلوب لا يختلف في سخفه واستخفافه بعقول البشر، حيث المفاوضات تجري، كما يقال لنا مع “حكومة مستقلة”، والاختلافات معقدة وكبيرة بين المتفاوضين…
والمشكلة كما تبدو، تكمن الآن في أن أجهزة التحكم بالرموت، لا توجد بالمنطقة الخضراء فقط، ولكنها أيضا توجد في طهران وقم. والكل يحاول توجيه أزرار التحكم في اتجاه يخدم استراتيجياته، وأمام ضغط على الأزرار في اتجاهين متضادين، تتوقف الدمى عن الحركة، وربما يبدأ الصمغ اللاصق للبهلوانات الشمعية في الذوبان بسبب قوة حرارة الضغط. وفي محاولات يائسة للخروج من المأزق، تتالى الزيارات على عواصم التحكم، علها تتوصل إلى حلول وسط، تنقذ الموقف، وتؤكد “استقلال” الأراجوزات التي تستمد شرعية وجودها من غرائبية ثنائية: الولي الفقيه وسيد البيت الأبيض. وكلاهما متفق على اختطاف العراق، الأول بسبب موقف ثأري وانتقامي، تراكم عبر مسيرة تاريخية طويلة، ليست قادسية ابن الوقاص إلا حلقة واحدة في تلك المسيرة. والثاني، لأنه رأى في العراق، صندوق الكنز، وقاعدة الارتكاز لمشروعه التوسعي في المنطقة، والذي حمل اسم الشرق الأوسط الكبير.. الطبعة الجديدة من حلف بغداد.
وإذن فرغم طنطنة الحديث عن توقيع معاهدة بين حكومة مستقلة، هي الحكومة العراقية كطرف ثان، والإدارة الأمريكية كطرف أول، فإن هذه المعاهدة، في واقع الحال، يوقعها طرف واحد، ليس إلا، مع نفسه. وفي أحسن الحالات، فإن الطرف الآخر فيها، هو إيران وليس العراق. فليس من جدال، في أن الأمريكيين يسيطرون على الأوضاع في شمال العراق، منذ عام 1991. حين خرجت أماكن التواجد الكردي عن سيطرة الحكومة المركزية في بغداد. أما الحكومة المعينة أو “المنتخبة”، فهي تخص إيران، لأن الذي يسيطر عليها هم قيادات حزبي الدعوة والمجلس الإسلامي الأعلى، وكلاهما أسسا ورعيا من قبل حكومة طهران.
ومن الناحية القانونية، فإن جميع القرارات الصادرة عن مجلس الأمن الدولي، بعد احتلال العراق، بل حتى قبل الاحتلال بأكثر من عقد كما هو الحال مع القرار رقم 661، الذي صدر عام 1990، وحتى القرار 1770 الصادر عام 2007، فإنها أكدت على عدم المساس بالسيادة العراقية، ولا شك أن وجود قواعد عسكرية يفرضها المحتل، هو نمط آخر من العدوان على العراق، يتناقض بشكل فاضح وسافر مع نص القرار رقم 1500 الصادر بعد الاحتلال عام 2003، وقرار مجلس الأمن 1511 الصادر أيضا عام 2003، وكلا القرارين أكدا على أن العراق بلد محتل، وأن الولايات المتحدة الأمريكية تتحمل مسؤولية دولة الاحتلال، بعدم المساس بسيادة العراق وسلامة أراضيه الإقليمية، وتحميل الحكومة الأمريكية مسؤولية حماية العراق، بوصفها دولة الاحتلال، وهذا يوجب عدم المساس بأرضه. وأن هذا الاحتلال لا ينقص من سيادة العراق.
إضافة إلى ذلك، فإن اتفاقية جنيف الدولية الرابعة المعقودة عام 1949، قد منعت المساس بسيادة أراضي الدولة المحتلة وعدم المساس بقوانينها، وعدم التعرض لمواطنيها وعدم المساس بالأرض. وأكدت المادة (51) من اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات المعقودة عام 1969، بطلان أية معاهدة تعقد بالإكراه تحت الاحتلال أو الحرب أو بأي وسيلة كانت.
والنتيجة، أن المعاهدة الأمنية الجديدة المزمع توقيعها، تتم بأبعاد عسكرية وسياسية واقتصادية، بهدف ضمان استمرار الهيمنة على الكنز، الذي كان غزو العراق مبرره الحقيقي الأوحد، على أسس قانونية، تمنح الاحتلال شرعية الحضور. وتؤمن له وجود قواعد عسكرية شبه دائمة، تجعل القوات الأمريكية الموجودة في العراق، بعيدة عن التماس المباشر مع الناس، وبالتالي عن عناصر المقاومة، وتحد من خسائرها البشرية والعسكرية.
ومن خلال هذه المعاهدة أيضا، تؤمن الإدارة الأمريكية استمرار منح القوات الأمريكية وقوات المرتزقة في شركات الحماية، حصانة قضائية تحميهم من المساءلة وتمنع محاكمتهم أمام المحاكم العراقية. كما تسهم في وضع الثروة النفطية العراقية تحت السيطرة الأمريكية من خلال إبرام اتفاقيات طويلة الأمد تعطي السيطرة لشركات نفط أمريكية على آبار العراق، وتصدير النفط العراقي لأمريكا بأسعار مجحفة.
وبالإضافة إلى ذلك تمنح المعاهدة للقوات الأمريكية السيطرة على الأراضي والأجواء العراقية البرية والبحرية والجوية والقيام بأعمال عسكرية بدعاوى محاربة الإرهاب. كما تمنح الولايات المتحدة الأمريكية سلطة السيادة على العمليات العسكرية داخل وخارج العراق، وتعفي المسؤولين الأمريكيين والمقاولين المدنيين المختارين، رسميا من القوانين العراقية، الجنائية والمدنية والعسكرية. وتفتح باب الاقتصاد العراقي، بأوسع أبوابه أمام الشركات الأمريكية الكبرى التي ستكون خاضعة للقانون الأمريكي.
ويبدو أن الإدارة الأمريكية متعجلة لإعلان توقيع هذه المعاهدة، في شهر يوليو، أو الشهر الذي يليه على الأكثر، قبل تصاعد حدة السباق بين الديمقراطيين والجمهوريين للوصول إلى البيت الأبيض. لكي تلزم الإدارة القادمة بما توصلت له من اتفاقيات ومعاهدات.
وإذن فنحن أمام خرق آخر للسيادة العراقية، وليس الشراكة بين ندين متكافئين.
cdabcd
makki@alwatan.com.sa
اضف تعليق
اسمك بريدك الالكتروني
تعليقك:
تعليقات
* تعليق #1 (ارسل بواسطة فائق المرهون / القطيف)
تحياتي الخالصة للدكتور أبوالوليدالذي عودنا دائما على موسوعيته واطلاع أفقه الواسع , ونحن هنا نتساءل هل تملك القيادات العراقية الحالية القدرة على رفض أو تعديل المعاهدة المزعومة وجعلها في أقل القليل كما قال الدكتور يوسف شراكة بين ندين متكافئين ؟,كما لنا رجاء للدكتورالفاضل بالقاء الضوء على المعاهدات الاميركية التي وقعت مع دول الخليج مثل الكويت وقطر ومدى خرقها لسيادة هذه الدول وميزان بنودها وأرجحيته …. تمنياتي لك بالصحة والى الملتقى .