معالم مرحلة كونية جديدة
في الحديث السابق جرى تناول بعض التحولات في العلاقات الدولية التي تنبئ بتغيير الجغرافيا السياسية الكونية. ونوقشت بشكل خاص، التطورات الأخيرة في جورجيا وبعض الجمهوريات السوفيتية السابقة، والدرع الصاروخي الأمريكي، بأوروبا الشرقية، الذي ترى فيه روسيا الاتحادية تهديدا مباشرا لأمنها القومي. وانتهينا بطرح سؤالين مركزيين تمحورا حول معالم الحقبة الجديدة، وكيف ينبغي استثمارها من قبلنا نحن العرب.
والواقع أن الحقبة التي بدأت بسقوط جدار برلين، وسقوط الاتحاد السوفيتي في نهاية الثمانينات، هي فترة استثنائية ومتداخلة في تاريخ الإمبراطوريات والدول، من حيث إنها أفضت إلى تحول العلاقات بين الدول من صراع إلى “شراكة”، محكومة بتوازنات القوة. ولكونها استثناء، ونمطا غير معهود في السياسات الدولية، فإنها اعتبرت نشازا طارئا، واستراحة محارب لبقية القوى الفاعلة في صناعة القرار على المسرح الكوني. والنتيجة أن المقاربة لا ينبغي أن تتجه إلى المقارنة بين الثلاثة العقود المنصرمة، والحقبة القادمة على أهمية ما جرى خلالها من أحداث جسام، ومن تطورات علمية وثورات في مجال تقنية الاتصالات واستخدام الشبكات العنكبوتية، والتقدم بجسارة في استخدام الأقراص الناعمة، وأيضا في الإنجازات الهائلة التي تحققت في مجال البيولوجيا. إن فترة العقود الثلاثة المنصرمة، على أهميتها، تبقى محطة طارئة في التاريخ الإنساني، من حيث تفرد قوة واحدة بالتربع على عرش الهيمنة العالمية.
من هنا فإن المقاربة ينبغي أن تتوجه بشكل مباشر إلى خصائص المرحلة التي سبقتها، والتي أسست لبروز نظام عالمي جديد، في أعقاب نهاية الحرب العالمية الثانية، وبين ما يتوقع أن يكون عليه النظام العالمي الجديد بعد انتهاء حقبة الأحادية القطبية.
وأول ما يواجه هذه المقاربة، هو عمق الاختلافات بين القطبين المتربعين على عرش الهيمنة في صناعة القرار الدولي، الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي السابق. فالخلافات لم تكن فقط بين نظامين متنافسين في سبيل الهيمنة على العالم، كما هو حال الإمبراطوريات السابقة، ولكنها كانت خلافات عقائدية بين نظامين سياسيين، أحدهما رأسمالي والآخر شيوعي، وكان لهذه الاختلافات العقائدية تأثيرها المباشر في صياغة النظام الاقتصادي في النظامين، حيث تبنى الرأسماليون سياسة الانفتاح الاقتصادي وفوضى السوق، بينما تبنى الشيوعيون السيطرة على كافة وسائل الإنتاج، وتطبيق النظام الاشتراكي، الذي انتهى بتعزيز رأسمالية الدولة.
إن هذه المقاربة مهمة جدا، في سياق الحديث عن خصائص المرحلة التي ارتبطت بحقبة الحرب الباردة، لأنها تلقي في نتائجها، بظلال كثيفة على طبيعة العلاقات والاصطفاف الدوليين، اللذين سادا في تلك الحقبة. لقد كان النظام الرأسمالي، بحاجة إلى أسواق واسعة، لتسويق منتجاته، لأن الذي يحكم نظامه الاقتصادي، ويمنحه القابلية على الفعل والحركة والتقدم إلى الأمام هو قانون الربح. وكان هذا القانون، بطبيعته يتطلب حيوية وإبداعا وسرعة في الحركة، وضخ دماء جديدة باستمرار لماكنة التشغيل. وكان النظام الديموقراطي وتداول السلطة وسيادة دولة القانون، والفصل بين السلطات الثلاث هي التعابير الحقيقية عن فاعلية النظام الرأسمالي.
في النظام الاشتراكي، كانت الأمور تسير باتجاهات مختلفة جدا. فمن جهة، كان عامل الربح معدوما أو ضئيلا في سياسات النظام، وكانت سياسات التنمية، والهاجس الأمني الذي يعيشه النظام قد اقتضى تبني سياسة الستار الحديدي، مما نتج عنه عزلة كبيرة عن العالم، وعدم اكتراث بقوانين السوق. وكان من نتائج هيمنة الدول على كافة أنشطة المجتمع ووسائل وأدوات الإنتاج تضخم الأجهزة الحكومية وسيادة عفن البيروقراطية، وشل فاعلية المبادرة والإبداع، وعسكرة المجتمع وتركز السلطة بأيدي الاستخبارات والجيش، وسيادة الكساد الاقتصادي.
والملاحظ أمام هذا الواقع، أن الدول الغنية في بلدان العالم الثالث، اتجهت في تلبية حاجاتها، من التكنولوجيا والأسلحة والواردات الأخرى إلى الأسواق الرأسمالية، كونها قادرة بحكم وفرة مواردها المالية لتسديد قيمة احتياجاتها، في حين اتجهت الدول الفقيرة، باستثناءات قليلة، إلى التعامل مع الاتحاد السوفيتي السابق والدول المتحالفة معه لتلبية ذات الاحتياجات، نظرا لقلة الأرباح المفروضة أو انعدامها، وأيضا بسبب الحصول على ديون طويلة الأجل، بفوائد محدودة جدا، لا يجري في الغالب تسديدها. وكانت النتيجة انشطار بلدان العالم الثالث، وبضمنها أقطار الوطن العربي، في علاقاتها الاقتصادية إلى بلدان غنية تنتهج الطريق الرأسمالي وتتعامل اقتصاديا بكثافة مع الغرب، ودول أخرى فقيرة، تنتهج الطريق اللا رأسمالي، وتتعامل مع السوفيت. وكانت النظم السياسية والاقتصادية لكلا المعسكرين، الرأسمالي والاشتراكي تلقي بظلالها كثيفة، وبقوة على دول وشعوب العالم الثالث.
في الحقبة الجديدة، يسود من جهة نهج براجماتي واضح، بديلا عن الصراع العقائدي. ويلتزم الروس، بالطريق الرأسمالي الذي سبقهم الغرب بالسير فيه. بمعنى آخر، فإن الذي بدأ يسود بروسيا الآن هو النظام الديموقراطي، بالطريقة الغربية التي بشر بها من قبل روسو ومونتيسكيو ولوك، حيث التعددية وتبادل السلطة، والفصل بين السلطات. وهنا يقفز إلى الذهن نمط جديد في العلاقات الدولية، حيث التنافس ليس عقائديا، ولكنه على الثروات والمواقع الاستراتيجية، وأيضا على الربح. إن ذلك يعني بوضوح، انفتاحا على السوق، وانفتاحا على العالم، وكسرا لسيادة نمط الستار الحديدي، وانزياحا عن النظام الشمولي. وذلك يتطلب تشجيع روح الإبداع والمبادرة، والتعامل بندية مع الأنظمة الأخرى المتنافسة على السوق.
ما يهمنا في هذا السياق، أن الحقبة الجديدة، بحكم التطور التاريخي، وتعدد الأقطاب المتنافسة على السوق، سوف تشهد استرخاء القبضة الحديدية والاحتكارات التي فرضتها الإدارات الأمريكية المختلفة، والدول الغربية الأخرى على تصدير التكنولوجيا والعلم، بما يفتح آفاقا جديدة أمام شعوب العالم الثالث، وبضمنها نحن للتزود بأحدث المنتجات العلمية، وعلى كافة الصعد. ويجدر التنبه في هذا السياق، إلى الاختراقات الاقتصادية الكبرى التي حققتها الصين الشعبية، والدور الاقتصادي المتعاظم للهند، بما ينبئ أننا أمام واقع جديد، ومناخات جديدة، وفرص كبيرة للإفلات من هيمنة الغرب الرأسمالي، بما يسهم في ترصين العلاقات الدولية وجعلها أكثر توازنا وعدلا.
نقطة أخرى جديرة بالمناقشة، في سياق المقاربة بين حقبة الحرب الباردة والحقبة الكونية القادمة، هي أن الأولى كان عمادها الصناعة الثقيلة، وتوفر رؤوس الأموال الكبرى. في هذه الحقبة برزت حقائق أخرى بمدلولات مختلفة واحتياجات مغايرة. فنحن الآن إزاء الثورة التقنية الثالثة وربما الرابعة، حيث الحضارة تعتمد على العلم وعلى ما يعرف بالأقراص أو البرامج الناعمة التي تحتاج إلى إبداع وفن، أكثر مما تحتاج إلى رأسمال، وهذا يعني أننا متى ما امتلكنا الوعي والعزيمة والإرادة على الولوج في هذا العصر بقوة وثبات فإن الطريق أمامنا سوف يغدو مفتوحا وأكثر رحابة وقوة. وفي ظل واقع التنافس الحاد داخل المعسكر الرأسمالي الجديد، فإن الظروف ستكون مهيأة بصورة أفضل للمستهلكين، من العالم الثالث لتحسين الشروط التفاوضية، بما يخدم أهداف التنمية والبناء.
وفي هذا السياق أيضا، ستتوفر شروط أفضل لتحقيق التنوع في مجالات استيراد السلاح والتكنولوجيا وإرسال البعثات الدراسية للخارج بما يخدم النهج المستقل والإرادة المستقلة.
وعلى الصعيد السياسي، سيكون من شأن ذلك عودة الاعتبار للمواثيق والأعراف والمعاهدات والقوانين الدولية، التي تم تجميدها، أو التلاعب بها خلال العقود الثلاثة المنصرمة، وبضمنها مبادئ القانون الدولي، وإعلان حقوق الإنسان وميثاق الأمم المتحدة.
تلك هي بعض مؤشرات الحقبة القادمة، سوف نتناولها بالتفصيل في أحاديث أخرى، آملين أن تكون موضع اعتبار من قبل المسؤولين في أقطارنا العربية، شحذا للهمم، وتنشيطا لروح المبادرة والإبداع، بما يخدم قضايانا المصيرية، ويسهم في أن نأخذ مكاننا، اللائق… بشرا أحراراً وفاعلين تحت الشمس.
cdabcd
yousifsite2020@gmail.com
يوسف مكي
اضف تعليق
اسمك بريدك الالكتروني
تعليقك:
تعليقات
* تعليق #1 (ارسل بواسطة ماجد الخالدي)
بسم الله الرحمن الرحيم
يقول البعض أن الحروب قد ولت إلى غير ذي رجعة بعد أن فرض التسلح النووي سلاماً جبرياً باعتبار أن الحرب باتت تعني الدمار والفناء المتبادل المؤكد فاختارت الأطراف المختلفة من الجبارين خيار السلام الأوحد ولكن هيهات هيهات تلك أمانيهم فليس يجنى من الشوك العنب فكل ما بذره الجبابرة عبر التاريخ هو الشوك وسيحصد العالم حرباً ضروساً لا محالة وهي على الأبواب والله أعلم .. إذاً فالسؤال هو “وماذا لو اندلعت الحرب في الغد أو بعد غد؟