مطلوب خارطة طريق بديلة

0 205

بدت صورة المشهد في الأرض العربية، من المحيط إلى الخليج خلال هذا الأسبوع، متزاحمة ومثقلة بدراما وأحداث، تبدو من بعد متنافرة ومفتقرة إلى عناصر الوحدة.ومن خلال هذه الصورة وضحت معالم الشيخوخة على النظام العربي الرسمي بأسره، والذي هو الآن أشبه بسفينة تاهت في لجة البحر وتكسرت ساريتها وسط عاصفة عاتية، منحدرة بعنف نحو الهاوية، بينما انقض على حطامها مجموعة من القراصنة الكبار، يتقدمهم اليانكي الأمريكي، من كل جانب، يصارعون الزمن للإنقضاض على ما تبقى فيها من حياة وأمل وما في مخزونها من ثروات.

 

فقريبا منا، في أرض القداسات، صعد مجرم الحرب آرييل شارون حرب الإبادة التي يشنها بحق الفلسطينيين، وقد شملت هذه الحرب محاولة فاشلة لاغتيال القائد الدكتور عبد العزيز الرنتيسي الناطق الرسمي باسم حركة المقاومة الإسلامية، ورد الحركة بعملية استشهادية سقط فيها العشرات من الصهاينة بين قتلى وجرحى، وقامت قوات الإحتلال الصهيوني باجتياح قطاع غزة وتقطيعه إلى أشلاء، محدثة المزيد من الدمار والقتل في أوساط المدنيين الفلسطينيين. ويلاحظ في هذا الإتجاه أن الإدارة الأمريكية التي أطلقت مبادرة خارطة الطريق، والتي استقبلت محاولة اغتيال الدكتور الرنتيسي بعبارات نقد خجولة للحكومة الإسرائيلية، بادرت إلى استنكار عملية حماس بعنف، وطالبت المجتمع الدولي للتصدي لتطرف الفلسطينيين، واعتبرت ذلك جزءا من الحملة الدولية ضد الإرهاب. وسارعت دول الإتحاد الأوروبي هي الأخرى، منادية بالويل والثبور للإرهابيين الفلسطينيين الذين يعكرون صفو هدوء المستوطنين الصهاينة، ويقتلون أطفالهم ونساءهم، وطالبوا الدول التي تقدم الدعم المالي للمقاومة الفلسطينية بقطع ذلك عنها فورا، حفاظا على الأمن والسلام العالمي.

 

والدول التي صمتت طويلا أمام استغاثات الفلسطينيين ومطالبتهم بتواجد قوات دولية لحمايتهم من حرب الإبادة الصهيونية، أفاقت أخيرا على أهمية تشكيل قوة سلام دولية بإشراف الأمم المتحدة، للحضور إلى الضفة الغربية وقطاع غزة، لكن ليس لحماية الفلسطينيين، كما هي شرعة مبادئ الأمم المتحدة وحق تقرير المصير، ولكن لقتلهم والقضاء على انتفاضتهم الباسلة، تحت ذريعة محاربة التطرف، وخضوعا للإملاءات وجبروت القوة الأمريكية.

 

وبالتزامن مع هذه الخطوات، يجري الآن العمل على قدم وساق، وبوساطات وتدخلات عربية للقضاء على البقية الباقية من الكرامة، تحت شعار إعادة الأمن وإيقاف العنف لكي يتمكن الوسيط الأمريكي من المضي قدما في مفاوضات تطبيق مبادرة خارطة الطريق. و يشاع في الأوساط الرسمية ذات العلاقة، أن موازيا جديدا لغزة- أريحا في طريقه للبروز تحت مسمى غزة بيت لحم هذه المرة.. وليس لذلك إلا معنى واحدا، هو أن القادة العرب لم يعد لديهم أية إرادة أو قدرة على الدفاع عن مصالحهم وأمنهم القومي والوطني، وأنهم يتحركون بالوكالة لتنفيذ المشاريع الأمريكية والصهيونية.

 

لا يبدو في الأفق أن خطوات دراماتيكية ستأخذ مكانها الآن فيما يتعلق بإيجاد حل، حتى وإن لم يكن مشرفا، للقضية الفلسطينية. فالرئيس الأمريكي مشغول حتى أخمص قدميه بإعادة ترشيح نفسه لانتخابات الرئاسة الأمريكية الجديدة. ولا يجادل عاقل، في أن ذلك يعني في جملة ما يعنيه، مزيدا من الدعم والإقتراب من المشروع الصهيوني على حساب المصالح القومية للعرب.. فالعرب كما قال الرئيس هاري ترومان لا يملكون قوة على التأثير في الوصول إلى البيت الأبيض، وصناديق الإقتراع لا تهتم في الغالب بالشأن العربي. ومن جهة أخرى، فإن الوقت المتبقي للسيد للرئيس يكاد بالكفاف، لا يكفي لمعالجة الأوضاع التي نتجت عن المستنقعين الأفغاني والعراقي اللذين وجدت القوات الأمريكية نفسها غارقة فيهما، بفعل سياسات اليمين المتربع في البنتاجون والبيت الأبيض.

 

وقد اتضح الآن أن مهرجان الفرح الذي عم الإدارة الأمريكية بفعل السقوط السهل والسريع للعاصمة العراقية قد انقضى، وحل محله وضع جديد حيث تتصاعد المقاومة الشعبية لقوات الإحتلال في معظم المدن والقرى العراقية، في بغداد والبصرة والموصل، وفي بلدات الفلوجة وهيت وديالى والمشاهدة وبلد وتكريت، بحيث لا يكاد يمر يوم دون أن تقدم القوات الأمريكية عددا من أفرادها. وتواجه القوات الأمريكية وضعا آخر صعبا في أفغانستان، حيث تنمو عمليات المقاومة ضد الإحتلال الأمريكي، في خط بياني متصاعد في جبالها وأوديتها.

 

وعلى الحدود الشرقية لبلادنا، يبدو أن إيران ستمر بمرحلة من غياب الإستقرار، إثر مظاهرات طلابية غاضبة استمرت لليوم السادس على التوالي. ومن الواضح الآن أن تلك التظاهرات تلقى استحسانا وتشجيعا من الإدارة الأمريكية. وأي تكن الأسباب الحقيقية لتلك المظاهرات، فإن المؤكد أنها حدثت بعد فترة قصيرة من تهديد مستشارة الرئيس لشؤون الأمن القومي، كونداليزا رايس بإن بلادها ستعمل على زعزعة واستقرار النظام الحاكم في إيران. وفي اعتقادنا فإن هناك جملة من الأسباب الداخلية الموضوعية لنشوب حال عدم الإستقرار، ولكن ذلك لا يجب أن يغيب فرضية وجود تدخلات من الخارج في الشؤون الداخلية لهذا البلد، خاصة مع الطموحات المعلنة للقيادة الإيرانية في التدخل في شؤون العراق، ومحاولة دعم القوى السياسية الشيعية الممثلة في المجلس الأعلى للثورة الإسلامية، للحصول على، ولو حتى، جزء يسير من الكعكة، وهو أمر تعارضه بحدة الإدارة الأمريكية التي وضح للجميع جشعها، وأصرارها على الإستفراد بكامل الكعكعة لحسابها الخاص دون مشاركة أحد فيها.

 

في الجزء الغربي من الوطن العربي، استمر القطر الجزائري في معاناته، فبالإضافة إلى الكوارث الطبيعية التي حلت به، والتي كان آخرها الهزات الأرضية المتتالية، تواصلت حالة العنف والمواجهات بين قوات الجيش الحكومي وعناصر التطرف الديني. وفي نفس الوفت، شهد القطر الموريتاني انقلابا عسكريا فاشلا ضد حكومة ولد الطايع، واستمرت المواجهات بين الإنقلابيين والعناصر الموالية للرئيس، وتمكن الأخير من كسب المعركة لصالحه. وعلى الرغم من أن الإنقلاب قد فشل، فإن المؤيدين للإنقلابيين يشيرون إلى تدخلات خارجية حسمت الموقف لصالح الرئيس ولد الطايع. والشيء المؤكد، أن الذي حدث في البلاد هو مؤشر على تنامي المعارضة المحلية للسياسات الرسمية للنظام الموريتاني، وبشكل خاص ما يتعلق منها بسياسة التطبيع مع الكيان الصهيوني، وإقامة علاقات سياسية واقتصادية وأمنية معه، وفتح الأبواب مشروعة للعربدة والهيمنة الأمريكية. وهناك إجماع واسع على أن الشعب الموريتاني، بحكم تكوينه الديني والقومي، يقف في غالبيته ضد السياسات الرسمية للنظام فيما يتعلق بالعلاقات مع الدولة العبرية، وأنه ما لم يقم بمراجعة موضوعية لسياساته الحالية، فإن البلاد ستكون مرشحة لقلاقل أخرى وعدم استقرار.

 

هنا في مرابعنا، أعلنت وزارة الداخلية السعودية في بيان لها خبرا مؤسفا، حيث فقد في مكة المكرمة، وبمواجهات مع بعض عناصر التطرف مجموعة من رجال الأمن.. ومهما يكن عدد الذين سقطوا، في تلك المواجهات، فإنهم قيمة لا تقدر بثمن، وقد رحلوا شهداء للواجب ومن أجل تأمين الأمن والإستقرار للجميع. ولكن ذلك يعيد بحدة من جديد أهمية طرح موضوع تحقيق العقد الإجتماعي، وفتح أبواب الحوار على مصارعيها، وأن يصار إلى تسمية الأمور بسمياتها الصحيحة دون خوف أو وجل.

 

لا بد من إشاعة روح التسامح ونبذ الكراهية، واحترام الرأي والرأي الآخر، واستكمال بناء مؤسسات المجتمع المدني، والقضاء على الفساد وتحقيق الإصلاح السياسي والعودة إلى جوهر الدين الصحيح حيث يقول العلي العظيم في محكم كتابه “ولو كنت فضا غليظ القلب لانفضوا من حولك” “وإنك لعلى خلق عظيم” صدق الله العظيم.

 

تلك حوادث تبدوا جميعا، كما أشرنا، في صدر هذا الحديث، متنافرة ومفتقرة إلى عناصر الوحدة، لكن قليلا من التأمل يثبت غير ذلك. إنها جميعا باختصار، حاصل خلل في المعادلة بين الواجباب والمستحقات.. إنها حاصل الغربة وغياب العقد الإجتماعي، وفشل النظام العربي الرسمي في الحفاظ على المصالح القومية والوطنية، وهي أيضا حاصل فقدان الرؤية والإرادة فيما يتعلق بموقعنا ومركزية دورنا في العلاقات الدولية، ولعل المطلوب عربيا الآن بدلا من اللهث وراء خارطة الطريق التي أعلنها الرئيس الأمريكي جورج بوش أن يسعى العرب جميعا، قادة وجمهورا إلى صياغة خارطة طريق عربية جديدة تأخذ بعين الإعتبار المسلمات التي أشرناها، وأن القيمة الحقيقية والمطلقة في أي متصور قادم للتنمية الإجتماعية وتحقيق التطور يجب أن تكون هي الإنسان.. وتحقيق كرامة الإنسان، وتلك هي الخارطة البديلة المطلوبة.

 

yousifsite2020@gmail.com

 

 

 

د. يوسف مكي

تاريخ الماده:- 2003-06-17

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

خمسة × واحد =


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.

د.يوسف مكي