مطاع صفدي: تلاقح النضال والأدب والفلسفة
مطاع صفدي: تلاقح النضال والأدب والفلسفة
عن عمر ناهز السبعة والثمانين عاما، رحل فارس الكلمة، وأهم الوجوه الفلسفية العربية، المفكر والروائي مطاع صفدي، إثر أزمة قلبية ألمت به. وبرحيله فقدت الساحة الفكرية، فارسا من فرسانها الكبار، لينضم إلى قافلة من رحلوا من المفكرين العرب، الذين أسهموا بشكل كبير في تجديد الوعي العربي، منذ مرحلة الخمسينيات من القرن الماضي، حتى لحظة رحيله.
الفقيد الكبير، من مواليد دمشق، وهو المؤسس لمركز الإنماء القومي ورئيس تحرير مجلة “الفكر العربي المعاصر”، ومجلة “العرب والفكر العلمي”.
صدرت له مؤلفات عدة، منها “فلسفة القلق”، و”الثورة في التجربة”، و”استراتيجية التسمية في نظام الأنظمة العرفية”، و”نقد العقل الغربي الحداثة وما بعد الحداثة”. وهو كتاب موسوعي عن التحولات النظرية للفكر الغربي عبر القرون الحديثة. و”نظرية القطيعة الكارثية”، “نقد الشر المحض” من جزأين وفيه يتناول العولمة، والامبراطورية الأمريكية، والتحوّلات السياسية، ومعاني الحرب، ويناقش هيغل وفاتيمو وفوكوياما حول نهاية التاريخ” وكتب عددا من الروايات منها “جيل القدر”، و”ثائر محترف”، ودراسات في الفلسفة الوجودية مجموعة قصصية “أشباح أبطال”.
وصفه رئيس المنتدى القومي العربي، الأستاذ معن بشور بأنه المفكر والكاتب وعاشق الفلسفة، شب مناضلا وبرز مفكرا، وانغمس في الفلسفة. عاش قناعاته القومية والفكرية والسياسية والفلسفية، ولم يساوم في حق أو يهادن في مبدأ.
لقد بدأ الفقيد الكبير، مساره الفكري والسياسي بنزعة وجودية قومية. ومن ثم أخذته مسارات المعرفة إلى فلسفة ما بعد الحداثة وبات من راودها وناشريها في الثقافة العربية. وتهمين على كتاباته أفكار ومصطلحات الفلاسفة الفرنسيين الجدد مثل ميشيل فوكو وجيل دلوز وجاك دريدا.
أسس المفكر الكبير مشروع “مطاع صفدي لترجمة الينابيع”، وامتلك ناصية اللغة العربية متفوّقاً بها على كثيرٍ من معاصريه، وأسهمت عدته اللغوية في عثور زملاءه المترجمين على مترادفات صعبة كما يتحدث عنه صديقه محمد أركون.
جمعت الفقيد صفدي علاقة متينة بالفيلسوف الفرنسي جيل دلوز وقام بترجمة أهم كتبه “ما هي الفلسفة”، وأشرف على ترجمة أعمال ميشيل فوكو، وقدّم أعمالاً ثمينة كتبها بأسلوبه الخاص الجامع بين الشعر والفلسفة على طريقة أساتذته الفرنسيين.
وصفه المفكر اللبناني علي حرب، بأنه أهم مفكّر عربي تميز باطلاع محدّث باستمرار للموضوعات والأبحاث الفلسفية المتجددة والمتدفقة بأوروبا، وأشار بالاستفادة من بحوثه وهوامشه الثمينة.
في حوار معه، أجراه الأديب العراقي المعروف، ماجد السامرائي، أشار الراحل، إلى أن تفكيره، ولد وهو في حمأة الحدث. فهو فكر يحاول، قدر الإمكان، أن يسأل عما يجري حوله، وأن يستطلع آفاق القضايا التي طرحت، بعنف شديد، على جيل من الشباب حلم بتغيير العالم من خلال تغيير أفكاره.. من خلال ابتكار الأفكار.. ومن خلال التطلع إلى ما يشبه أفقا من الأحلام المغزولة بالمتطلعات الإنسانية المشروعة..
لقد كان الفكر في مرحلة الخمسينيات من لهيب المعركة، متلونا بألوانها، ويتشظى بشظاياها، ويتصاعد بصعودها، ويهبط عندما تهبط نفحاتها وتطلعاتها الكبرى. وكان هاجس الفقيد الأول أن يجعل الحدث محكا.
“لم نكن نتطلع بصورة عامة إلى ما يتجاوز البرهة الآنية التي تجعلنا مأزومين بمشكلة أن نحقق وجودنا بموازاة وجود الأمة، وأن نجترح شعارات هي لذاتنا كما هي لذات الأمة. فكان التفكير منجبلا بطينة التكوين. فلا تفكير بدون تكوين.. كان هاجس التكوين هو هاجس الفكر. ومن هنا كان لهذا الفكر مزاياه، وكانت له سقطاته، لأن التكوين لم يكن دائما على مستوى الأمل فيه. فكثيرا ما كان هذا التكوين يأتي ناقصا، قابلا للتحريف من قبل الأفكار الأخرى التي تخشى من خروج التكوين عن سلطتها..
والتكوين من وجهة نظر مطاع صفدي مسألة كينونة، فالمرء لا ينبغي أن يكون على مستوى الفكرة، بل يكون مادتها، وأن يصبح هو “المفكر به” بمعنى: أن يتجاوز معطياته المباشرة ويتشرف الأفاق.
وعلى هذا الأساس، كان هاجسه عندما بدأ الكتابة، البحث عن “نماذج تكوين” سواء منها النماذج السابقة التي يقدمها لنا التراث العربي، أو النماذج التكوينية التي برزت في المشروع الثقافي الغربي.
لقد فتحت هذه الرؤية للفقيد الراحل منذ البداية، آفاق النظر في خطين متوازيين: بين التجربة العربية، والتجربة العالمية. وخلص إلى أنه لا يمكن لتجربتنا أن تأخذ بعدها المعاصر والمكنون إن لم تتحاور مع ما هو موجود في هذا العالم.. مع ما يمكن أن يقدمه لنا العالم من مشروعاته الثقافية الكبرى. وبالطبع كان المشروع الثقافي الغربي أعلى هذه المشروعات، وكنا نعيش في هامشه.. مرة نتصدى له بالسياسة، وأخرى نتصدى له بالفكر.. وكانت المشكلة هي أن نصل ما بين السياسة والفكر. وكان ذلك ربطا بين الخاص والعام، وبين الذاتي والموضوعي.
تعرفت على الفقيد الراحل، خلال حضوره لدورات المؤتمر القومي العربي، التي تشرفت بالمشاركة فيها، ووجدت فيه مع الغزارة في المعرفة، روح الفنان والشاعر، الممتلئ أملا وثقة بالمستقبل. ومع ما بلغه من مرتبة علمية وشهرة واسعة، ظل يعمل روح الثائر، المتواضع والمبشر بفجر جديد لأمته.
رحم الله الفقيد الكبير الأستاذ مطاع صفدي، وأسكنه واسع جناته، وألهم أهله ومحبيه الصبر، وإنا لله وإنا إليه لراجعون.