مطارحات في موضوع الإصلاح السياسي
في حوار جرى، يوم الجمعة الماضي، عبر القناة العربية الإخبارية ANNحول مشاريع الإصلاح السياسي العربية، التي غالبا ما تطرح من قبل القوى الاجتماعية الفاعلة والنخب المثقفة، أثار مدير البرنامج الصديق الدكتور مصطفى عبد العال مجموعة من الهواجس، التي ربما تشكل معوقات أمام قبول القادة العرب بهذه المشاريع.
أولى هذه الهواجس، أنه ربما كانت لدى معظم القادة العرب خشية من أن مطالب الإصلاح السياسي ما هي إلا أقنعة، يختفي خلفها الطامعون بالتسلق إلى السلطة، وأنها والحال هذه، “كلمة حق يراد بها باطل”. وثاني هذه الهواجس، أن مشروع الإصلاح السياسي لم يطرح بحدة، في البلدان العربية، إلا بعد أن أصبحت المنقطة مكشوفة، وغدت التهديدات الخارجية، وبخاصة تهديدات الولايات المتحدة الأمريكية للأمن القومي العربي والوحدة الوطنية، أمرا واقعا ومحققا، بعد أن رأى الزعماء العرب بأم أعينهم الطريقة التي تم بها احتلال العراق. ومن هنا تبدو الضغوط الداخلية باتجاه إطلاق الحريات السياسية وتدشين مؤسسات المجتمع المدني واستكمال البنية الديموقراطية والدستورية، وما إلى ذلك من مشاريع، وكأنها متماهية مع مخططات العدوان والتفتيت الأمريكية. وللتدليل على وجاهة هذا الهاجس، تطرح حالة الإنفصام والقطيعة بين المثقف والجمهور. فهذا المثقف ليس معنيا البتة بمصالح الناس، بل يطرح مشروع الإصلاح لغاية “في نفس يعقوب”، ليس لها علاقة بسلامة الوطن ووحدته، ولا بتطوير النظام السياسي فيه والإرتقاء به إلى حالة متجانسة مع روح العصر والتحولات الهائلة التي تجري في العالم من حولنا.
تلك كانت خلاصة النقاط التي ربما تدور حولها هواجس القادة العرب، ولعل تلك الهواجس كانت حاضرة لديهم، وهم يناقشون مع مستشاريهم إمكانية المشاركة في القمة العربية التي كان من المفترض أن تكون قد تحققت في العاصمة التونسية، في مطلع هذا الشهر، والتي تعطلت للأسف، لأسباب لم تعد خافية على أحد.
والواقع أنني شخصيا، حين عاودت قراءة هذه الهواجس، لم أجد لها ما يبررها، ذلك لأن النخب المثقفة في الوطن العربي، هي لسوء الحظ، الأقل حضورا في الجانب السياسي. وتاريخها في الوطن العربي لا يكشف عن نوايا أو مخططات تآمرية للوصول إلى السلطة. وخلال أكثر من نصف قرن مضى، كانت خلايا التخطيط للإنقلابات تنطلق من الثكنات العسكرية، وليس من المراكز الأدبية والثقافية والفكرية، رغم أن حملة أفكار التنوير كانوا الأكثر عرضة للمطاردات والاضطهاد والقمع. ومع التسليم بأن التحسب في كل الأحوال عمل مشروع، فإن المنطقي أن يتركز على القوى التي تعمل في الظلام، والغدر في الموروث الإنساني طبيعته الطعن من الخلف وليس المواجهة.
ومن المعروف أن الذين طالبوا ويطالبون بالإصلاح في التاريخ الحديث كانوا دائما يعملون في الهواء الطلق ووضح النهار، وأن برامجهم كانت باستمرار مكشوفة وواضحة المعالم. حدث ذلك في كل عهد وفي كل مكان رفعت فيه رايات الإصلاح السياسي عالية. كان ذلك واضحا في دعوة الشيخ جمال الدين الأفعاني إلى الوحدة وإزالة الفروق بين المذاهب الإسلامية، وتحرير العقل من الخرافات والأوهام، ودعم العقائد بالأدلة والبراهين، والتخلص من قيود التقليد وفتح أبواب الإجتهاد. وحدث ذلك أيضا مع الشيخ محمد عبده، وهو يجاهد ضد الإستبداد، ويطالب المسلمين بالوقوف في وجه الإستعمار. وقد تبعهم في هذا النهج محمد فريد وقاسم أمين وأحمد لطفي السيد والشيخ طاهر الجزائري والشيخ حسين الجسر ومحمد على كرد وعبد الحميد الزهاوي ومحمد رشيد رضا والأمير شكيب أرسلان ومحمد بيرم التونسي والطاهر بن عاشور ورفاعة رافع الطهطاوي وعبد الرحمن الكواكبي، وكثير غير هم ممن تصدوا للحكم المطلق واعتبروا الإستبداد أساس المساوئ.
كان هؤلاء الأفذاذ يواجهون بأقلامهم الحرة حالة الخلل في مجتمعاتهم داعين إلى إعادة بنائها على أسس صحيحة وكانوا يعلنون عن برامجهم ومشاريعهم في رابعة النهار. وقد استمر الوضع على حاله حتى يومنا هذا بين دعاة التنوير والإصلاح السياسي. لم يلجأ أي منهم إلى انتهاج وسائل تضر بالسلم الإجتماعي أو تؤثر على استقرار الأمن في أوطانهم، وكان خيارهم المجادلة بالتي هي أحسن. وتلك مزية يجب أن تحسب لعناصر الإصلاح والتنوير في معظم البلدان العربية.
بل لعلنا نجادل بما يناقض هذا الهاجس، بالقول بأن مشروعية أي نظام سياسي تكون موضع شك وتساؤل، حين تحدث حالات احتقان شديدة، وحين يعجز عن الدفاع عن الأرض والسيادة، وطريق الإصلاح السياسي، والتسليم بحقوق الناس، والتوجه المباشر نحو صياغة علاقات تعاقدية هو الذي يؤمن الوحدة الوطنية ويخلق جسرا فولاذيا في وجه التهديدات والتحديات الخارجية، ويجعل من البلاد قلعة عصية على الإختراق.
أما القول بأن مشاريع الإصلاح لم تطرح بحدة إلا بعد استعار الهجمة الأمريكية على المنطقة العربية، فهو بالإضافة إلى أنه قول غير دقيق، لأن مشاريع التنوير كانت قائمة في البلدان العربية منذ أكثر من نصف قرن، فإن ذلك حتى وإن كان صحيحا، فإنه لا يضع عليه علامة استفهام، ذلك أن القوى الحية تستنهض طاقاتها وإمكاناتها في الأزمات وحين تتعرض مجتمعاتها للمخاطر. وإذا لم تكن النخب الثقافية والعناصر المستنيرة بالمقدمة في الدفاع عن الوطن وكرامته ومستقبله، فمن يكون إذن؟!!
إن ما يتعرض له وطننا العربي، ومن ضمنه بلادنا من تهديدات واستفزازات تفرض على الجميع المشاركة في عملية المواجهة، كل من موقعه وحسب اختصاصه. وطبيعي جدا في هذا الصدد أن يكون صوت المثقف عاليا ومدويا، وضاغطا من أجل السير بالعملية الإصلاحية وحماية الوطن، ليس فقط من باب سد الذرائع، ولكن لأن تلك كانت ولا زالت استحقاقات مؤجلة، حان موعد تقديمها، ولأنها أيضا السبيل لخلق مجتمع قوي قادر على حماية وطنه، وإلحاق الهزيمة بقوى الشر والعدوان.
ومن جهة أخرى، ينبغي التذكير، بأن قيم الإصلاح السياسي، ليست احتكارا أو صناعة أمريكية، بل حاصل تراكم إنساني وتجارب طويلة ومريرة، وهي بالتالي قيما إنسانية نبيلة، لا تملكها أية جهة، وليست لها جنسية خاصة. ومن هنا فإن تثبيتها هو تحصين للبلاد بثروة أخلاقية، تكون تجلياتها أوضح ما تكون حين تستنفر طاقات الأمة ومخزونها الحضاري.. وكانت هذه القيم حاضرة بجلاء في تاريخنا العربي، ونهج الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم وسيرة الخلفاء الراشدين والصحابة الأجلاء رضوان الله عليهم.
أما وصم العلاقة بين المثقف والجمهور بالإنفصام والقطيعة، فإنه يغيب ابتداء طبيعة المطالب التي تنادي بها النخب المثقفة، وهو قول يتداعى عند قراءة برامج الإصلاح السياسي التي تطالب بها تلك النخب. أو ليس من مصلحة المجتمع ككل، قيادات وشعوب أن تكون علاقة الواجبات والإستحقاقات واضحة المعالم للجميع، وأن يتم الفصل بين السلطات، والإعتراف بالتعددية واحترام الرأي والرأي الآخر، وانبثاق سلطات تشريعية، وأن يكون المواطن والحاكم على السواء ملزمون بعلاقات تعاقدية فيما بينهم؟ وتتوالى الأسئلة، أليس تطوير التعليم وتحسين الأوضاع الصحية وبناء مجتمع سليم سوف يصب في مصلحة الكل؟ وإذا ما اكتمل بناء مؤسسات المجتمع المدني، أو ليس ذلك في مصلحة العامل والفلاح والصحفي والفنان والكاتب، وجميع خلايا وأفراد المجتمع؟
اعترف أن العلاقة بين المثقف والجمهور لم تكن في حالة توافق دائم، ذلك أن النخبة المثقفة انقسمت على ذاتها، فمنها من اتجه مباشرة نحو الإهتمام بمصلحته الخاصة وانكفأ عن الشأن العام، واضحا نفسه سمسارا ومساهما في صفقات تجارية احتيالية، ومنهم من أصر على التمسك بثوابته الوطنية والأخلاقية، رغم أن ذلك قد وضع الكثير منهم على حافة الفقر، وعرضهم للملاحقة.. وأكثر من ذلك بكثير، فقد كانت سلطات الأمن العربية بارعة جدا في اجتثاث مشاريع الإصلاح عند منابعها، مما عطل إمكانية نشوء حراك اجتماعي مثمر، وغيب على الأمة والوطن إمكانية الإستفادة من المزاوجة بين طاقات وإبداعات المثقف والمفكر والفنان من جهة وعموم فئات الشعب من جهة أخرى.
ليس هناك من حل عملي وواقعي لدرء العدوان والنهوض بالمجتمع وتمتين الجبهة الداخلية وبناء الوحدة الوطنية، سوى تحقيق التفاعل بين الذاتي والموضوعي، وتحقيق مصالحة كبرى شاملة، تأخذ بعين الإعتبار جميع الإستحقاقات المؤجلة، وتعيد صياغة العلاقات المجتمعية على أسس قوية وصحيحة، وتلك هي المقدمة لإصلاح الوضع العربي بأسره وتحقيق اللحمة بين أفراد الأمة حكاما ومحكومين.
yousifsite2020@gmail.com
د. يوسف مكي
تاريخ الماده:- 2004-04-07