مصر وتحديات المستقبل

0 417

“الشعب يريد” . . شعار طغى على معظم الشعارات التي هتفت بها حناجر الملايين، في ميدان التحرير بالقاهرة، وفي عشرات المدن المصرية، ومن خلفهم عشرات الملايين من أبناء الأمة العربية، منذ الخامس والعشرين من يناير/ كانون الثاني، إلى الحادي عشر من هذا الشهر، وكان لشعب مصر ما أراد .

 

الحدث ليس مجرد مظاهرة احتجاج مطلبية، ولم تقده حركة سياسية بذاتها، بل كان في جوهره استجابة لنداء التاريخ، يستنهض مصر لتكتشف ذاتها وعبقريتها من جديد، بعد أن غيب دورها الإيجابي، كمنطقة جاذبة للنهضة ورائدة لحركة التحرر العربية .

الآن وقد تأكد أن ما بعد الليل العربي ليس سوى إشراقة الصباح، فإن مصر المثقلة بتركة ينوء بحملها الجبال، تركتها عقود من الذل والقهر والمهانة، مطلوب منها أن تبدأ انتفاضة من نوع آخر، بعد أن كسبت جهادها الأصغر، لتدخل بذات العزيمة والقوة مرحلة الجهاد الأكبر، مرحلة التعمير والبناء، ومواجهة التحديات القائمة، والمحتملة .

مصر الآن على بوابات تحد مع القدر، بعد أن استعادت ذاتها، فقوى الهيمنة الكبرى، وفي مقدمتها الكيان الغاصب، بعد أن وجدت في النظام السابق حليفاً استراتيحياً لها، توجهت إلى بلدان عربية أخرى، وحولتها إلى مناطق جاذبة في استراتيجياتها، بديلاً من الجبهة المصرية . فكان التوجه إلى العراق والسودان ولبنان وبالتأكيد فلسطين . ولسنا في هذا السياق، بحاجة إلى كبير عناء لإثبات ذلك، فليس من دليل أوضح على تأثير خروج مصر من منظومة الأمن القومي العربي، ومعاهدة الدفاع العربي المشترك، من صيحات أطفال فلسطين، أثناء غزو لبنان، قاومه الفلسطينون واللبنانيون لأكثر من ثمانين يوماً، ولم تحرك القيادة المصرية ساكناً .

وقوائم الذل والمهانة التي تعرض لها العرب، بسبب غياب دور مصر العربي لمدة طويلة، ليس أقلها احتلال أرض السواد، وتحويل عاصمة العباسيين إلى كانتونات تتقاسمها ميليشيات الطوائف . وللأسف لم يكن غياب مصر عن ذاتها، من النوع المحايد، فقد أريد لها أن تكون في الخندق الآخر، وأن تستجيب لتنفيذ سياسات هي بالضد من إرادة شعبها، وعلى حساب أمنها الوطني والقومي .

نستميح شعب مصر العزيز، ونطلب منه وله العذر، فقد كان هو على قائمة القرابين، وطوال العقود التي مضت واصل كفاحه ونضاله، وحظي سجل الاحتجاجات في مصر، بحصة الأسد في الاحتجاجات بالبلدان العربية . فمنذ عام 2004 إلى موعد الحصاد، حدثت أكثر من 3000 مظاهرة واعتصام، احتجاجاً على الأوضاع الاقتصادية المزرية، وغياب الحريات السياسية والديمقراطية، وأيضاً تعاطف مع بلدان عربية واجهت محن العدوان، كما الحال، في الغزو “الإسرائيلي” لبيروت، والعدوان على العراق، وحرب تموز عام ،2006 والعدوان على غزة نهاية عام 2009 . وكانت تلك المظاهرات والاحتجاجات تواجه بالقمع، ولكن مصر كانت دائماً تعبر عن إرادتها، وأخيراً “الشعب يريد”، وكان له ما أراد .

تحديات “الجهاد الأكبر”، كثيرة وصعبة، لعل أهمها بعد عبور البرزخ، هو الانتقال السلمي إلى نظام لا يكفل فقط احترام التعددية وتداول السلطة، وحرية العمل السياسي، ولكن أيضاً تحقيق العدالة الاجتماعية، وتوزيع الثروة على أساس الندية والتكافؤ . وفوق ذلك كله، فإن كفالة ذلك مرهونة بمستوى القدرة على تخطي الصعاب، والانطلاق إلى تنمية اقتصادية واجتماعية وسياسية حقيقية، بضمنها تنمية الموارد البشرية، وإعادة النظر في مناهج التعليم، وتأمين السكن والعلاج، والقضاء على الرشوة والفساد والمحسوبية .

أمام مصر الآن، تحدي الانتقال السلمي للسلطة، بالتوجه الفوري إلى صياغة دستور جديد للبلاد، وانتخابات حرة، وتشجيع قيام مؤسسات المجتمع المدني، بكافة روافدها، وتنوعاتها، وتأمين حرية العمل الحزبي .

على الصعيد القومي، هناك تحديات أكبر، لعل أهمها الفكاك من أسر اتفاقية كامب ديفيد، وكسر القيود المفروضة على سيادة الدولة المصرية فوق أراضيها . وفي هذا الاتجاه، فلن يكون تحقيق ذلك في المدى المنظور بالأمر السهل . إن على مصر أن تستعيد عافيتها وأن تبني قوتها العسكرية من جديد لكي تكون قادرة على الدفاع عن سيادة شعبها، وليس من المنطقي أن تقدم أية قيادة سياسية جادة في هذه الظروف على الدخول في مغامرات غير محسوبة، من شأنها أن تعيد عقارب الساعة إلى الوراء .

لكن ذلك لا يعني على أية حال، ألا تقدم القيادة المصرية، بعد تحقيق الانتقال السلمي للسلطة، على اتخاذ خطوات تؤكد فيها سيادتها على أراضيها، وإمساكها بزمام مقاديرها . وفي مقدمة الخطوات التي يفترض أن يقدم عليها النظام الجديد، مراجعة الاتفاقيات الأمنية والعسكرية والاقتصادية والتجارية غير العادلة مع الكيان الغاصب، وفي مقدمتها اتفاقية تصدير الغاز التي كانت ولا تزال، مثار غضب شديد من قبل شعب مصر .

إضافة إلى ذلك، هناك تحدي انفصال جنوب السودان عن المركز، ومن الغريب أن هذا الموضوع لم يحظ باهتمام كبير من القيادة السياسية السابقة، رغم علاقته المباشرة بأمن مصر المائي . وينتظر أن تعمل قيادة مصر المستقبلية، على احتواء النتائج السلبية لانفصال الجنوب، بما يضمن عدم المساس بحقوقها المائية .

هناك أيضاً، تحدي الحصار المفروض على شعب فلسطين في قطاع غزة، وإغلاق معبر رفح، من قبل السلطات المصرية، في العهد السابق . وقد كان ذلك موضع غضب واحتجاج من قبل أغلبية الشعب المصري، وأبناء الأمة العربية . ويتوقع الفلسطينيون المحاصرون في غزة، ومعهم أمتهم العربية، أن تبادر القيادة المصرية الجديدة، إلى العمل على رفع الحصار الجائر المفروض عليهم .

وهناك تحدي الاحتلال الأمريكي للعراق، والأوضاع المتوترة على ضفتي مضيق باب المندب، والأزمة اللبنانية المستعصية . كان دور مصر معطلاً تجاه معظم هذه القضايا، وجميعها ذت علاقة مباشرة بالأمن الوطني المصري .

نأمل من القلب أن يتمكن شعب مصر، من عبور مرحلة الانتقال السياسي بسلاسة، وأن تعود مصر قائدة للشرق، كما كانت دائماً عبر تاريخها التليد .

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

أربعة × 3 =


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.

د.يوسف مكي