مصر… ماذا بعد الاستفتاء على الدستور
أنجزت المرحلة الثانية من التصويت على دستور جديد في مصر. ورغم أن النتائج التقريبية للاستفتاء تشير إلى أن نسبة التصويت بنعم على الدستور بلغت 64 في المائة، من الذين شاركوا بالتصويت، فإن التقارير تشير أن الاقتراع حفل بالكثير من الانتهاكات. كما رافقت العملية، أعمال عنف واشتباكات بين الموالاة والمعارضة،
أمام عشرات اللجان، اضطرت قوات الجيش للتدخل لفضها.
وتشير تقارير إلى عمليات واسعة لشراء الأصوات من قبل الموالاة، وأن الأقباط في قرى عدية منعوا من التصويت، من خلال ترويعهم، أو تعطيل اللجان، التي يشكل الأقباط غالبية ناخبيها، أو غلقها بالجملة.
لكن هذه الخروقات، بحسب كثير من المراقبين، ليس لها تأثير جدي على النتائج المعلنة للاقتراع. فالإسلاميون، سواء الإخوان منهم أو السلفيون أكثر تنظيما وتماسكا وتجانسا واتساعا من القوى الأخرى، التي لا يجمعها، في الغالب سوى معارضتها لهيمنة الإخوان المسلمين على السلطة. يضاف إلى ذلك، أن الإخوان بعد تمكنهم من السيطرة على مجلس الشورى، وتربعهم على هرم السلطة، أصبحوا مسنودين بعمق الدولة. كما أن دائرة مؤيديهم، في مختلف المحافظات قد اتسعت بحكم هيمنتهم على مقاليد الأمور.
لكن هذه الأمور مجتمعة، ليست نهاية المطاف، وليست مدعاة لاطمئنان الإخوان وحلفائهم على استمرار قيادتهم للسلطة والمجتمع في مصر. فالنسبة التي حصلت عليها المعارضة ليست قليلة. فقد حصدوا 36 في المائة من الأصوات، التي رفضت الدستور. وذلك يعني أن نسبة كبيرة من المصريين لم توافق على الدستور الجديد. إن الانتهاء من عملية الاستفتاء، على هذا الأساس، لن يكون نهاية مطاف التجاذبات والصراعات بين الموالاة والمعارضة. فبعد فترة وجيزة ستجري الانتخابات النيابية، ومن المتوقع أن لا تكون هيمنة الإخوان وحلفائهم مطلقة على المقاعد النيابية، بعكس ما حدث في الانتخابات التي أجريت بعد الثورة. وإذا ما حدث ذلك، وهو الأكثر احتمالا، فإن العلاقة بين القوى المؤيدة للنظام والمعارضة له مرشحة لتداعيات وانهيارات أكثر من تلك التي شهدناها، إثر صدور البيان الدستوري الذي حصن، بموجب الرئيس مرسي قراراته عن المساءلة والرفض، من قبل المحكمة الدستورية العليا، وما تبعه من تصويت على الدستور.
واقع الحال، أن حالة التجاذبات الأخيرة، لم تكن حول نصوص بعينها وردت في الدستور، ولكنها خلافات السياسة بين التيارات المدنية وتيارات الإسلام السياسي. والأزمة في حقيقتها تبدو في اختلاف نهجين على صيغة الحكم، وبالتأكيد فإن ما ورد في الدستور، الذي صيغ من قبل الإخوان وحلفائهم، قد جاء في روحه وتفاصيله معبرا عن هذا الاختلاف.
لقد وصل الدكتور محمد مرسي لموقع الرئاسة، في ظل ظروف بالغة التعقيد، وكان المرشح الذي يليه، من حيث نسبة الفوز بالانتخابات الرئيسية هو الفريق أحمد شفيق، آخر رئيس للوزراء في النظام الرئيس مبارك، الذي أجبرته الحركة الاحتجاجية على التنحي. بمعنى أن خيارات الناخبين في المرحلة الثانية للانتخابات الرئاسية اقتصرت على خيار بين اثنين، إما مرشح الحزب الذي أطيح به بعد 25 يناير 2011، أو مرشح الإخوان المسلمين، تحت مسمى حزب العدالة والتنمية.
لقد دفعت محدودية الاختيار، بكثير من الثمانية ملايين، للتصويت للدكتور مرسي، متأثرين بشعار “النار ولا العار”. وقد تصوروا أن الإخوان الذي وصلوا للسلطة، مدعومين بتيارات سياسية أخرى، سيحفظون الجميل لهم، وأن الرئيس سيتصرف كزعيم لكل المصريين، وليس كعضو في جماعة سياسية، باعتبار أن الشعار الأول لقادة 25 يونيو هو إسقاط النظام الشمولي، الذي جثم على صدر مصر لعدة عقود.
سارت الأمور باتجاه مغاير لمعظم التوقعات، فالنظام الجديد واجه انفلاتا أمنيا، لم يتمكن من تطويقه حتى هذه اللحظة، ونسبة البطالة والجريمة ارتفعتا بشكل غير مسبوق، والسياحة تراجعت كثيرا, والرئيس الذي وعد غداة تنصيبه أن لا يقدم الدستور الجديد للاستفتاء عليه إلا بعد توافق عام، نكث بوعده، وشكل جمعية تأسيسية للدستور، معظم أعضائها من جماعته، والمتحالفين معه.
المعارضون للرئيس، نظموا صفوفهم، وشكلوا جبهة إنقاذ لمناهضته. وفي التقييم الموضوعي لتوازنات القوة، يبدو الرئيس وجماعته على السطح، ممسكين بزمام الأمور، ويحظون بتأييد الأغلبية، لكن هذه القراءة تبدو لكثير من المحللين مضللة. فالجماعة رغم سيطرتها على معظم المؤسسات الدينية، لا تمثل قوة تذكر وسط الطبقة المتوسطة. يضاف إلى ذلك كله أن الحركة الاحتجاجية قامت في الأصل من أجل تأسيس دولة مدنية وديمقراطية، وليس من أجل إعادة نظام الخلافة، كما يروج الإسلام السياسي في أدبياته.
وفي هذا السياق، ينبغي التذكير بإن الدستور، هو القانون الأعلى الذي يشمل مجموعة القواعد الأساسية التي يتم وفقاً لها تنظيم الدولة وممارسة الحكم فيها. وضمان نجاحه، انعقاد الإرادة الشعبية حوله. ويتحقق ذلك، في البلدان الديمقراطية العريقة، بموافقة الهيئة التشريعية المنتخبة بأغلبية ساحقة عليه، ومن ثم تحقيق استفتاء شعبي عام، لضمان الموافقة عليه من قبل الشعب. والدستور أيضا، عرف، لا تستقيم من دونه أمور الدولة والمجتمع. ومع تعمق العلاقة بين الدولة والمجتمع، تصبح بنوده من البديهيات، ولا تعود هناك حاجة للتأكيد عليها عبر وثائق ملزمة، كما هو الحال الآن في ريطانيا، ودول أخرى. في هذه الحالة، يتم الاعتماد على تجميع سوابق الأحكام القضائية والقواعد العرفية، لتكون هي الناظمة في العلاقات بين المجتمع والدولة.
الخلاصة، هنا أن تصويت الأغلبية على الوثيقة الدستورية، في مصر لا يجعل منها موضع اتفاق الجمهور، لأن المطلوب في حالة التصويت هذه هو تحقق أمرين، أولهما أن تكون نتيجة التصويت بالأغلبية الساحقة. والأمر الثاني، هو اتفاق كل مكونات النسيج المصري عليه.
إن الأساس في الدولة المدنية، هو تحقيق مفهوم المواطنة، واحترام مبدأ التنوع. ولا يعلم المرء كيف يتحقق مبدأ المواطنة، في ظل حرمان شريحة من المجتمع، مهما بلغ تعدادها، لأسباب دينية وفئوية وسياسية من حقوقها, إن غياب التوافق الاجتماعي على وثيقة الدستور، من شأنه أن يفتح بوابات الصراع، وأن تجد الأقليات المحرومة وسيلتها لنيل حقوقها، في التشرنق على ذاتها، لتحقيق صبواتها، وتثبيت هويتها الثقافية، وذلك ما يلحق الضرر بالوحدة الوطنية، ويسهل من الاختراقات الخارجية.
سوف تكرس نتائج الاستفتاء على الدستور المصري، سوف حالة الانفلات الأمني، وتعطل مصالح الجمهور، ويحرمهم من التوافق والانطلاق إلى فضاءات يسود فيها التسامح. وما لم تتحقق المصالحة مع النخب الفكرية والثقافية، فإن أمام أرض الكنانة أيام صعبة، حتى يتم التخلي عن مفهوم الغلبة، إلى مفهوم التوافق والمواطنة.