مصر .. عودة الروح والأمل
لعل أهم ما لفت من تابعوا التداعيات الملحمية، التي اتخذت من ميدان التحرير، غرفة لعملياتها، هو روعة الأداء، والطابع السلمي الذي اتسمت به الانتفاضة، توقع كثيرون أن تنتقل الانتفاضة، مع تصاعد إيقاعها، إلى العنف، لكن شباب مصر فاجأ نفسه وفاجأ العالم بانضباط والتزام أسطوري.
زوايا كثيرة في ثورة شعب مصر، تستحق قراءتها بتمعن. فمصر قلب العروبة النابض، هي مركز الجاذبية، وتداعيات ما يجري فيها سلبا أو إيجابا، ستكون لها تأثيرات مباشرة على التطورات السياسية، بالوطن العربي، وبشكل خاص حين يتعلق الأمر بصراعنا مع الصهاينة، وقوى الهيمنة.
لعل أهم ما لفت من تابعوا التداعيات الملحمية، التي اتخذت من ميدان التحرير، غرفة لعملياتها، هو روعة الأداء، والطابع السلمي الذي اتسمت به الانتفاضة، توقع كثيرون أن تنتقل الانتفاضة، مع تصاعد إيقاعها، إلى العنف. وذلك التوقع أمر مشروع، لكن شباب مصر فاجأ نفسه وفاجأ العالم بانضباط والتزام أسطوري، بأن لا يطلق الثائرون رصاصة واحدة، في مواجهة جلاديهم.
قراءة هذا الجانب، ومحاولة تفسيره، لن تكون ممكنة إن هي لم تحاول سبر غور المكونات النفسية والسوسيولوحية لشعب مصر، لماذا هذا الانضباط والصبر الملحمي؟.
يقدم المؤرخ، جمال حمدان في كتابه شخصية مصر: دراسة في عبقرية المكان، إجابة موضوعية، تفك بعضا من الطلاسم. إنه يشير إلى تجذر هذه الحالة في المكونات النفسية للشعب المصري. إنها الحاجة لدولة مركزية أملى وجودها، اتساع الصحراء وتركز المياه في مصدر واحد. إن انضباط المصريين ليس استسلاما قدريا بل هو تسليم إيجابي. فالدولة هي التي تتكفل بتوزيع مياه النيل، مانح الحياة. وبدون وجود سلطة مركزية تضطلع بتوزيع هذه الثروة بشكل عادل، تضيع حضارة مصر.
فرغم أن نهر النيل يشق البلاد من الجنوب إلى الشمال فإن أرض الكنانة هي في الغالب صحراوية. وتعتمد إلى حد كبير على مياه النهر. فالنيل على هذا الأساس، يسيطر على حياة مصر، وهو وحده مشيد أوديتها. إنه بمـعنى آخر، “ليس فقط مانح الحياة في مصر ولكنه موزع الحياة على وجهها”، وهو بذلك يشكل وحدة المتناقض على هذه الأرض، حيث الاختلاف يبدو كبيرا بين الوادي وبين الصحراء. إذ يمنح الأول الحياة، بينما يمثل الآخر قسوة الصحراء وجدبها وضنكها.
والوادي المصري يشكل وحدة متصلة تبدأ من شلالات المياه الجنوبية، حيث يبدأ ضيقا في الجنوب، تحتضنه المرتفعات والحواف من الشرق والغرب، ثم لا يلبث أن يتسع باطراد، بينما يأخذ إطار التلال في التراجع، ويمتد هذا الوادي على طول البلاد حتى المصب في الشمال على ساحل البحر الأبيض المـتوسط. ومنذ القدم، تطلب ضيق الوادي وشحة المياه في مصر، قيام سلطة مركزية تنظم عملية توزيع الري. وهذا هو بالدقة، ما يفسر المكون النفسي لشعب مصر، المتسم تاريخيا بالانضباط، وما يبدو خضوعا قسريا لمركزية الدولة.
فعدم تنظيم توزيع هذه الثروة في الري الفيضي يمكن أن ينـتج عنه صراع المصالح بين الناس، بحيث يتمكن من له الغلبة الاستحواذ على الثروة المائية وحرمان غيره منها. إن ذلك سيؤدي لتطاحن وحروب ومواجهات دموية. إضافة إلى ذلك، فإن من كانوا يقيمون على أعلى الماء بمقدورهم أن يسيئوا استعماله، إما بالإسراف في استخدامه أو بحبسه تماما عمن يقع في أسفله. وهذا يعني أن الفلاح الذي تقع أرضه قرب حوض علوي يستطيع أن يتحكم في حياة أو موت كل الأحواض السفلية، وأن كل من يقع على أفواه الترع بإمكانه أن يهدد حقوق الفلاحين في المياه بالأراضي التي تقع في نهايات الترع. كذلك يمكن للمحاباة والتحيز أن يؤديا بمن يملكون التحكم بالماء إلى السخاء به لمن يريدون، ومنعه عمن لا يريدون. وهكذا فإن العلاقات المائية داخل الوادي أشبه ما تكون بقانون الأواني المستطرقة … إن كل تغير بها في موقع ما يستتبعه بالضرورة تغير في موقع آخر، وأي مضخة كابسة هنا سيكون لها تأثير على مضخة مستقبلة هناك.
في ظل هذا الواقع، بنى المصريون حضارتهم، وانتقلوا من حال إلى حال أخرى أكثر تقدما ونماء. فالحاجة إلى نقل المنتجات الزراعية والبضائع من منطـقة إلى أخرى قادت إلى التفكير في بناء السفن، وقد دفع ذلك بالمصريين إلى التوجه نحو بلاد الشام وجزيرة كريت وشرق أفريقيا وبلاد العرب لمقايضة منتجاتهم. وكانوا ينشرون تجربتهم، حيثما رحلوا، ويتعلمون من تجارب الآخرين.
لكن وعي المصريين بأهمية وجود السلطة المركزية، لم يحل دون بروز نزعة التحرر والاستقلال. وقد شهد التاريخ المصري ثورات وانتفاضات ضد الوجود الأجنبي، وضد ظلم الإقطاع. واتضح ذلك جليا في مقاومتهم لغزو اليونان والرومان، وعجز المحتلون عن تحقيق أي ذوبان ثقافي في ثقافة البلد المحتل، وكان اعتناق المصريين للإسلام وتعرب أرض الكنانة، هو تعبير عن تفاعل خلاق امتد، قديما عبر التاريخ، وتعزز بعد الفتح العربي. وفي العصر الحديث، تصدى المصريون للاحتلالين الفرنسي والبريطاني، في ثورات متعاقبة، وتمكنوا من دحرهما. وكانت ثورة عرابي، والانتفاضة المصرية التي قادها زعيم الأمة، سعد زغلول إشارات بارزة على طريق النضال من أجل العزة والكرامة، والتخلص من نير الاستعمار.
في هذا السياق، تحضر رائعة عميد المسرح العربي، توفيق الحكيم “عودة الروح:، التي يستقي منها هذا الحديث بعضا من عنوانها، يجري الحكيم حوارا مفترضا بين السفيرين البريطاني والفرنسي. يتحدث السفير البريطاني، عن المصريين، كشعب خنوع، فاقد للإرادة، وغير قادر على كسر قيوده. إن الظلم الذي يتعرض له الفلاح المصري، ونظام السخرة الذي يمارس بحقه، كفيل بجعله يتمرد على سارقي قوته وجهده، ولكنه لا يفعل ذلك. يعترض السفير الفرنسي على ذلك، ويؤكد له أن صبر الفلاح المصري ليس مطلقا، وأن له حدودا.
مصر تكتشف من جديد ذاتها، وتكتب تاريخا جديدا، وتخرج من حالة العزلة والانكفاء، لكن دون بيان أول، ومن غير أن تستولي دبابات على القصر الجمهوري، أو كتيبة عسكرية تتجه لمبنى الإذاعة والتلفزيون، ودون جعجعة وكثير كلام. ببساطة قرر شباب مصر أن يمسكوا بزمام المبادرة، وأن يَتَحَدُّوا القدر، بصدورهم، واتخذوا من الميدان مركزا يعانقون عبره عنان السماء، فكان لهم ما أرادوا. فهي إذن عودة للروح والأمل.