مصر تقترب من إغلاق المرحلة الانتقالية

438

يدرك الذين عاصروا مرحلة الاستقلال الوطني ضد الاستعمار الغربي، الدور المركزي الذي لعبته مصر، في التسريع بانتصار حركات التحرر الوطني في القارات الثلاث: آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية. وقد سكن في الوجدان واليقين العربيين، أن نهوض مصر هو نهوض للأمة بأسرها، وأنها حين تكبو، كما يقول الشاعر حافظ إبراهيم، لا يرفع الشرق رأسه.

وكان استقلال الجزائر، والجنوب اليمني، وصمود المقاومة الفلسطينية، وشعارات السيادة والاستقلال، وانتهاج سياسة تنموية مستقلة، ومقاومة الأحلاف، وكسر احتكار السلاح والحياد الإيجابي، عناوين عريضة، للزمن الجميل، زمن العزة والكرامة، في تاريخ الأمة المعاصر.

الزائر لمصر هذه الأيام، يلحظ عودة لروح ذلك الزمن. وقد بدأت مقدمات ذلك، في أول خطاب للفريق السيسي، بعد ثورة الثلاثين من يونيو، التي أزاحت حكم الجماعة، حين أقسم ثلاثا، أن مصر لم تخبر أحدا ولم تستشر أحدا، حين اتخذت قرارها، بإنهاء حقبة قصيرة مظلمة من تاريخها.

رغم حوادث وأعمال الإرهاب التي تتكرر كل يوم، فإن حالة من التفاؤل تسود مصر، وتلحظ بشكل خاص، لدى النخب الفكرية، ولدى سائق التاكسي، وعامل الفندق، بأن مصر تسير على السكة الصحيحة، وأنها سوف تتمكن في النهاية، من القضاء على الإرهاب، وتنهي مرتكزاته.

لقد تراجع التأييد للإخوان المسلمين بشكل كبير في مصر. والناس منشغلون بالحديث عن قناة السويس الموازية، وعن كيف تفاعل المصريون، بشكل ليست له سابقة، من أجل شراء السندات، حيث جرى تغطيتها، في زمن قياسي، بإرادة مصرية، ودون حاجة للاقتراض من البنك الدولي، أو أي من البنوك الأجنبية الأخرى.

تمكنت مصر من الخروج من النفق، بالتفاف شعبها، حول سياسات قيادتها الجديدة. ورغم ما تتعرض له من أعمال إرهابية، تتخذ من شبه جزيرة سيناء مركزا لها، وتشمل معظم المدن والبلدان المصرية، فإن القافلة تسير. ورغم بعض المنغصات، وارتفاع حالة التضخم والأزمة الاقتصادية والانقطاع المتكرر للكهرباء. فإن غالبية المصرين، يرون أن ما تواجهه بلادهم من مصاعب، لن تستمر طويلا، وسيجري التغلب عليها. وبالتغلب عليها ستنتقل أرض الكنانة، من حال السكون وانعدام الرؤية، وغياب البرامج التنموية، إلى نقيضها حيث تنفتح بوابات الأمل والعمل.

وليس عسيرا، على المراقب اكتشاف تصميم المصريين على تجاوز عقبات هذه المرحلة. وليس أدل على ذلك، من قبول المصريين، عن رضا وطيب خاطر، بالقرارات الصعبة التي تتخذها الحكومة، كرفع الدعم عن بعض السلع الغذائية والخدمات الاساسية. فهذه القرارات، من وجهة نظرهم، ضريبة ينبغي دفعها، لكي تنهض مصر مجددا وتأخذ مكانها اللائق بها بين والأمم.

في غمرة هذه الأحداث، تتحرك القوى السياسية، استعدادا للمرحلة القادمة، مرحلة إجراء الانتخابات النيابية، التي ستكون استكمالا للمرحلة الانتقالية، والتي يتوقع أن تأخذ مكانها في شهر مارس، من العام القادم، حيث تبدأ بعدها مرحلة الجهاد الأكبر. على أن الكثير من الناشطين السياسيين، يرون أن انتخاب برلمان مصري جديد، على أهميته، لن يشكل تحولا كبيرا في مجرى الحياة السياسية. وذلك يعود لضعف الأحزاب السياسية، وغياب التنافس من قبل أي مكون سياسي آخر مع نهج سياسة رئيس الدولة.

إن هناك تشابها كبيرا بين نتائج الانتخابات البرلمانية التونسية، وبين ما يتوقع حدوثه في مصر. ففي كلا البلدين حدثت ثورة، أدت نتائجها لتسلم الإخوان المسلين السلطة. وفي كلا البلدين ايضا فشلت الجماعة في إدارة الدولة والمجتمع.

لم تكن في البلدين، في لحظة صعود الحركة الاحتجاجية، وإزاحة نظامي بن على ومبارك، حركة سياسية، منظمة بشكل جيد، وقادرة مفردها على مواجهة الجماعة سوى المؤسسة العسكرية، وبقايا النظامين السابقين. ولذلك لم يكن متوقعا أن يأتي البديل للإخوان، بعد فشلهم بالبلدين: حركة النهضة الإسلامية بخسارتها في الانتخابات البرلمانية التونسية، وجماعة الإخوان في مصر، بإزاحتها عن السلطة من خارج دائرة المؤسسة العسكرية وبقايا النظامين السابقين. وهكذا فاز في تونس، حزب نداء تونس العلماني والدي يعتبر امتدادا للبورقيبية بقيادة الباجي قائد السبسي.

في مصر، ما بعد 30 يونيو، ليست هناك قوة قادرة أن تصل للبرلمان بحصد أغلبية المقاعد، سوى بقايا الحزب الوطني. وبالإضافة لبقايا الحزب الوطني، من المتوقع، أن يضم البرلمان القادم، مجموعة كبيرة من أفراد مستقلين، ليست لديهم أي برامج سياسية خاصة. وهؤلاء لن يشكلوا أي عبئ، أو معارضة حقيقية لسياسة النظام القائم.

سيستغرق إعادة تشكيل الحياة السياسية، وبروز أحزاب جديدة قادرة على أن تشكل معارضة حقيقية للنظام وقتا طويلا – إن ذلك سيؤدي إلى بروز برلمان ضعيف، وسيغيب الحياة السياسية الصاخبة، لكنه سيساعد على استكمال البرامج التنموية والاقتصادية من غير مشاكل سياسية.

والنتيجة أننا أمام مشهد فريد في المنطقة العربية، يتكرر في بلدين، شهدا المحطة الأولى، لما عرف بالربيع العربي. فكلاهما يستعيدان روح النظام السابق، بمسميات جديدة، وبديناميكية مختلفة، وإرادة شعبية. لكن التاريخ لا يعيد نفسه، فأنظمة الفساد والاستبداد ولت دون رجعة.

ما هو جديد في الأمر، هو قيام نظامين سياسيين بالبلدين على أسس تعاقدية، وفي دولة لا تختطف فيها السياسة الدين ولا يجري فيها تكفير المجتمع.

مصر تتجه بقوة وثبات، لاستكمال مرحلتها الانتقالية. وسيكون عليها مواصلة السير، بعزيمة لا تعرف الكلل للقضاء على الإرهاب، وتحقيق الأمن والاستقرار، لهذا البلد العريق. وسيكون عليها أيضا أن تسير حثيثا في مواجهة المشكلات الاقتصادية، وتطوير مخرجات التعليم، والاهتمام بالخدمات الصحية والكهرباء. فتلك هي السبل، لكي تزاول مصر الدور التاريخي المناط بها، ولتمنع تسلل خفافيش الظلام.

 

د.يوسف مكي