مصر تعيد كتابة تاريخها

0 385

 

بعد عام على صدور نتائج الانتخابات الرئاسية في مصر المحروسة، سقط حكم الإخوان المسلمين، بطريقة لم يتوقعها أحد. لقد استغرقت رحلة الإخوان للوصول للسلطة قرابة خمسة وثمانين عاما، منذ تأسست حركتهم بمدينة الإسماعيلية عام 1928م. وحين بلغوا مأربهم وتسلموا السلطة، بعد انتخابات نزيهة شهد لها العالم أجمع، فاز فيها الدكتور محمد مرسي بنسبة طفيفة، لم يتمكنوا من الاحتفاظ بها لأكثر من عام.

ورثت جماعة الإخوان المسلمين، عن النظام السابق تركة ثقيلة من أزمات اقتصادية وسياسية واجتماعية وفساد عم معظم مرافق الدولة وأجهزتها، وانفلات أمني غير مسبوق عم معظم المحافظات في مصر بعد انتفاضة 25 يناير عام 2011، وبطالة تتفاقم كل يوم، ونقص في المواد الغذائية والسلع الاستهلالية، وتضخم كبير في الأسعار.

وبدلا من التحالف مع القوى التي شاركت في الحراك السلمي، وأوصلت الإخوان إلى السلطة، تصرفوا بطريقة مخالفة لأبسط قواعد المنطق. لقد ظلوا مسكونين بهواجس الخوف من فقدان سلطة انتظروا اقتناصها طويلا، وكانت الخشية من ضياعها، هي عقب إيخل الذي تسبب في الثورة عليهم، وفقدانهم لصولجان الحكم، في هذا البلد العريق، لأمد يبدو غير منظور، وربما للأبد.

تصرفت جماعة الإخوان المسلمين أثناء الفترة القصيرة التي تسلمت فيها للحكم، بمنطق المنتصرين، وبأن الساحة خلت لهم لوحدهم، ودون مشاطرة غيرهم فيها. عبروا أولا عن زهدهم في السلطة، وقالوا إنهم يكتفون بالمجلس النيابي، إذا حصدوا أغلبية مقاعده، وأنهم سيرشحون فردا من خارج دائرتهم للانتخابات الرئاسية، ووعدوا بأنهم لن ينافسوا على رئاسة مجلس الشورى. وعندما هيمنوا على المجلس النيابي، تراجعوا عن وعودهم بالجملة والتفصيل.

نكث الإخوان بوعودهم التي قطعوها لحلفائهم تجاه مجلس الشورى، وحصل بعضهم على الفتات، بينما سيطروا هم على أغلبية المقاعد. وتخلوا عن المرشح المستقل آنذاك، الإسلامي المستنير الأستاذ عبدالمنعم أبو الفتوح، وسموا مرشحا رئاسيا من دائرتهم. وحين تسلم مرشحهم الدكتور محمد مرسي السلطة، بقي الخوف من ضياعها مهيمنا على سلوكياتهم. ومن حيث أرادوا الاحتفاظ بالسلطة إلى ما لا نهاية، معتبرين صناديق الاقتراع، جسرا مؤقتا لتحقيق هذا الهدف فإنهم أضاعوا كل شيء

تصرف الرئيس مرسي، كعضو بجماعة الإخوان المسلمين، وليس كرئيس لكل المصريين. فأعاد أسلوب، حكم الحزب الواحد، الحكم الشمولي الذي عانت منه مصر لعدة عقود، وكأن مصر لم تنتفض ضد الشمولية والإقصاء والاستبداد، وكأننا يا بد لا رحنا ولا جينا، كما يقول المثل المصري.

جرى الاستيلاء على جميع أجهزة الدولة، وسارعت قيادات الإخوان في أخونة الدولة، معتبرة مصر غنيمة، لا ينبغي التفريط فيها. فتمت إلى حد كبير، أخونة الجيش والاستخبارات، وبقية الأجهزة الأمنية، وجرى هجوم إعلامي مكثف، في ظاهرة غير مسبوقة على القضاء، انتهت بالاعتداء عليه. وبدأ التعرض، من قبل بعض العناصر المحسوبة على الإخوان، بأسلوب بذئ وغير متسق مع الثقافة الإسلامية والعربية، على المبدعين والفنانين، وشمل القدح أعراض الناس وشرفهم. وتزامن ذلك مع تسعير طائفي ومذهبي وديني، انتهى بالقتل والسحل على الهوية. ولم يسلم الإعلاميون، ولا الصحافة والفضائيات من هذه الهجمة.

وضاعف من الأزمة، فقدان الكرامة الإنسانية، وتعطل محطات وقود السيارات، بسبب انعدام السولار. ومع تصاعد أزمة الانفلات الأمني تراجعت السياحة، ومعها انخفضت العملة المصرية، وتفاقمت أزمة السكن، وكبرت معاناة العوائل المصرية البسيطة. وخرج المصريون مجددا إلى المبادين، طلبا للحل.

وعلى صعيد السياسة الخارجية، تراجع دور المصري، العربي والدولي. وفيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، قضية العرب المركزية، تكشف للجميع أن الشعارات التي رفعها الإخوان أثناء وجودهم خارج السلطة، لم تكن تعني شيئا. فالشعار الذي تعودوا الهتاف به تجاه الكيان الصهيوني، والذي يعد بالقضاء على اليهود، وبأن جيش محمد سيعود، انتهى برسالة من رئيس الجمهورية، محمد مرسي إلى رئيس الكيان العبري شمعون برير يصفه فيها بالصديق الوفي. وأكدت حكومته تمسكها بمعاهدة كامب ديفيد وبالتطبيع مع “إسرائيل”.

وإثر حرب غزة، غدت الحكومة المصرية وسيطا بين حركة حماس الفلسطينية، والكيان الصهيوني. وتعهد الرئيس المصري، برعاية وقت إطلاق النار بين الفلسطينيين والإسرائيليين. وتبخرت كل شعارات الماضي.

وكلما تفاقمت الأزمات، فقدت جماعة الإخوان المسلمين نصيبا آخر من شرعيتها، وانتهى بها الأمر لفقدان ثقة معظم قطاعات الشعب المصري. لكن الجماعة ظلت في حالة إنكار مستمر للأزمة. وفي حالات نادرة يعترف قادتها بوجود الأزمة، إلا أنهم يحيلون أسبابها إلى عبث وتخريب من خارج دائرتهم، في غطرسة واستعلاء أكدت نذره باقتراب أفول شمسهم.

ما حدث في الثلاثين من يونيو من خروج شعب مصر، هو طوفان لا يمكن وقفه. وهو تعبير عن غضب كامن، لم يكن بالإمكان تداركه، بعد الفشل والعجز في معالجة الأزمات المتراكمة، التي أودت بموقع مصر ومكانتها. وهو استعادة مصر لهويتها العربية، ولدورها التاريخي. لقد فرض الشعب إرادته وانتهى حكم الإخوان المسلمين عن مصر، ربما إلى غير رجعة.

في هذا المنعطف من تاريخ مصر، يحتاج شعبها ونخبها إلى مصالحة وطنية حقيقية لا تستثني أحدا، ولا تأخذ من نصيب أحد، بما في ذلك جماعة الإخوان المسلمين أنفسهم. فمصر بحاجة لأن تعيد ترتيب بيتها، وتداوي جراحاتها، وتتجه إلى المستقبل بقوة وعزيمة. فالتركة الثقيلة التي تنوء بها، لن يقدر على التصدي لها سوى الرجال الكبار، الذين يتصفون بالوعي والحكمة والصبر والابداع والمثابرة.

مصر بحاجة إلى العودة لشقيقاتها، الدول العربية، وأن تلعب الدور المناط بها في الوطن العربي وأفريقيا والعالم الإسلامي، فذلك هو قدرها، وهو قدر الرجال القادرين على إعادة كتابة التاريخ.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

ثلاثة × 4 =


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.

د.يوسف مكي