مصر بين مشهدين
ليس غريبا، أن يثير ما يجري من عنف في مصر قلق الكثير من العرب. فأرض الكنانة هي قلب الأمة النابض. ولم يجانب شاعر مصر الكبير، حافظ إبراهيم الحقيقة حين اعتبر نهوض مصر بوصلة لنهوض الشرق. وبحسب تعبير المفكر الراحل الأستاذ جمال حمدان أسهمت عبقرية المكان، في أن يلعب المصريون الدور الحضاري الذي اضطلعوا به والذي شع على عموم المنطقة لآلاف السنين.
لقد خلقت عبقرية المكان، نمطا خاصا وفريدا من البشر، وصفهم الرسول الكريم بأنهم خير أجناد الأرض. ولم يكن توصيف إبراهيم أو حمدان، اعتباطيا. فالتضامن بين المصريين، الذي فرضه واقعهم المعاش. وفي مقدمة تلك الأسباب، الحاجة لسلطة مركزية قوية تشرف على توزيع مياه النيل، بشكل يضمن التكافل واستمرار الحياة للجميع. لقد أدى ذلك إلى خلق مجتمع متجانس وموحد، على مر العصور، على الرغم من تعدد العقائد والأديان.
لعبت عبقرية المكان، الدور الأبرز في تعريب مصر وتمصير العرب، بعد الفتح العربي، بعقود قليلة. لقد صاغت “العبقرية”، عمق مصر الاستراتيجي، ووجهته نحو الشرق، وحسمت بشكل سريع ونهائي، موقع أرض الكنانة في الخارطة السياسية، وفي الانتماء القومي. ولم يكن دورها في الحفاظ على الهوية وصيانتها، بالعصر الحديث بأقل مما كان في العصور السابقة.
عبر المصريون أثناء معارك الاستقلال، عن تجانسهم الوطني، وهتفوا بوحدة الهلال مع الصليب. وحين، حدث الغزو الكولونيالي الغربي لمصر، تصدى المصريون بمختلف مكوناتهم لهذا الغزو. ويحتفظ تاريخ مصر بتفاصيل حادثة دنشواي، حين حكم قضاة موالون للانجليز على فلاحين مسلمين من قرية دنشواي، في مركز شبين الكوم بالإعدام، في عام 1906م، أيام الاحتلال البريطاني لمصر. أثناءها ثأر شاب مسيحي، ينتمي لعائلة العريان للكرامة الوطنية. فقام باغتيال القاضي بطرس غالي، الذي تولى محاكمة الفلاحين، وأصدر أحكام الإعدام بحقهم، منفذا حكم الشعب في رمز الخيانة، ومؤكدا إجماع المصريين على مقاومة الاحتلال. وأثناء تنفيذ حكم الإعدام بالبطل، دقت أجراس الكنائس، وكبرت المآذن، في وداع مهيب للعريان شهيد مصر.
قبل عام من هذا التاريخ، خرج الشعب المصري بالملايين، بمختلف أطيافه وبكل مكونات نسيجه الوطني، في 25 يناير عام 2011م، في معظم مدن مصر، ليصنع ثورة من نوع آخر. كان المشهد بميدان التحرير في قلب القاهرة، جليلا ومهيبا، أعاد للشعب العربي في طرفة عين بعضا من كرامته المهدورة. وأكثر ما ميز هذا الحراك الواسع هو طابعه السلمي، الذي أذهل بانضباطه وروعة أدائه العالم أجمع. تحولت الثورة خلال أيامها الثمانية عشر، إلى كرنفال فرح وموسم ابتهاج صنعه المصريون بوحدتهم وتعاضدهم. لقد وقفوا جميعا جنبا إلى جنب، أقباط ومسلمون حول هدف التغيير.
وبعد أيام قلائل من انتفاضة الشعب المصري، انحازت المؤسسة العسكرية، ممثلة في المجلس العسكري الأعلى لإرادة الشعب. وتفاعل الشعب العربي بأسره، من المحيط إلى الخليج مع الحراك الملحمي لأرض الكنانة، مرددا مع شعب مصر، أنشودة إرادة الحياة، الواعدة باقتراب الفجر ونهاية ليل العرب الطويل.
وبانتصار الثورة وإقرار الدستور، وصدور قانون الأحزاب وإعلان موعد الانتخابات النيابية، ومجلس الشورى، تواصلت فرحة المصريين، وخلفهم أمتهم العربية، رغم مؤشرات الانفلات الأمني بالمدن الرئيسية، بحسبان أن ذلك أمر من الطبيعي أن يلازم أي تحرك إنساني فوار، بحجم الحراك الشعبي الملحمي الذي شهدته مصر.
كان المؤمل، أن يتراجع الانفلات الأمني، وينتهي العنف فيأمن المصريون على حياتهم وأموالهم وأعراضهم. لكن ذلك للأسف لم يكن واقع الحال. اندلعت حوادث ماسبيروا في القاهرة، التي تكررت عدة مرات معبرة عن تصاعد حالة الاحتقان الطائفي، في مجتمع أكد تاريخه الطويل وحدة نسيجه. وقد ظلت تلك الوحدة المدماك الحصين الذي أفشل كل محاولات تفتيت الوحدة الوطنية لهذا الشعب العربق.
تفاءلنا خيرا بانتهاء الانتخابات النيابية، التي شهد الجميع بنزاهتها، كونها أول انتخابات مصرية تجري بشفافية منذ عدة عقود. وتشكل مجلس نيابي جديد معبر عن الخيارات الحقيقية للشعب. وكانت تلك خطوة مهمة على طريق بناء نموذج الدولة المدنية، والتأكيد على الانتقال الديمقراطي، والتماهي مع خصوصية هذا العصر. وتكللت تلك الخطوة بانتهاء انتخابات مجلس الشورى، بذات النزاهة التي طبعت عملية الانتخابات النيابية، مبشرة ببداية مرحلة جديدة في تاريخ مصر، حيث لا مكان للمحسوبية ولا للفساد، وحيث يحتل الفرد مكانته في المجتمع، بندية وتكافؤ، دونما حسبان لحسبه أو لجاهه، أو لموقعه في السلم الاجتماعي.
في اليوم الذي احتفل فيه المصريون بانعقاد أول جلسة لبرلمانهم الجديد، حيث يفترض أن يكون المشهد عطرا وبهيجا، انقلب الوضع رأسا على عقب، فأصبح كئيبا ومروعا. في ذات اليوم، وإثر انتهاء مباراة لكرة القدم بين النادي الأهلي بالقاهرة، والنادي المصري في بور سعيد، عاشت أرض الكنانة ليلة داكنة حزينة، وصفتها صحيفة الأهالي بـ “الليلة السوداء”، ونعتتها صحيفة الهدف المصرية، بالمذبحة والمشرحة وبالليلة الدامية في بور سعيد. وقالت عنها صحيفة الزمالك، أنها الليلة التي بكت فيها مصر. فيما وصفها رئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم بأنها “يوم أسود في تاريخ كرة القدم”.
لقد قدمت مصر أكثر من سبعين شهيدا، عدى أكثر من ألف جريح، بعضهم مصاب بارتجاج في المخ، وبجروح قطعية. وقيل فيما جرى انه استكمال لحالة الانفلات الأمني التي تشهدها مصر منذ أكثر من عام. اتهم الأمن مرة أخرى، بالتقصير في حماية المدنيين.
رجل في السابعة والأربعين من العمر، وصف في أحد المواقع الالكترونية المشهد الراهن في مصر قائلا: أبلغ من العمر 47 سنة، وأعيش في بلد الأمن والأمان!. عملت في مجال السياحة ومنذ سنة وأنا أعيش مع أسرتي بلا عمل. عندما اخرج من منزلي للبحث عن عمل أشعر بالخوف على أولادي من البلطجية. إنني أعيش في رعب وقلق، وأحمد الله على كل دقيقة تمر بسلام. لقد وصلت البلطجة يا سادة وصلت لملاعب الكرة وبلغت حد قتل أولاد في سن الزهور.
لن يعود إلى مصر ألقها ووهجها، إلا بعودة عبقرية المكان لسابق حضورها، وتحقق وحدة مكونات نسيج مصر. أن تستبدل الكراهية بالحب، والعنف بالتسامح، وأن يدرك المصريون أن الدماء التي تسيل هي مصرية في المبتدأ والخبر، وأن لا رابح في صراع المصريين مع بعضهم البعض، سوى أعداء مصر. تلك هي معطيات التاريخ، فعسى أن نعود مجددا له فنتعلم من دروسه.