مصر بين الثورة والدولة
يبدو أن مصر رست أخيرا، على بر الأمان بعد أكثر من ثلاث سنوات من الصخب والغليان، شهدت خلالها انتفاضتين شعبيتين، 25 يناير و30 يونيو، عرفتا مجازا بالثورتين. ومن حق المصريين، بعد صبرهم، أن ينعموا بشيء من الاستقرار والأمان، وأن يتجهوا مباشرة نحو البناء والتنمية والنهوض ببلادهم. فقد انتهت كرنفالات الفرح، وجرى تنصيب المشير عبدالفتاح السيسي في احتفال مهيب لموقع رئاسة الجمهورية، ليقود مصر في السنوات القادمة. وبقدر ما تسودنا نشوة فرح، بأن مصر حسمت خيارها، وارتضت بالمشير ربانا للسفينة، بقدر ما نشفق على الرئيس، لأن ثقل المهمات التي تواجهه، تنوء بحملها الجبال. وقد وضعته المقادير في موقع لا يحسد عليه.
فالرئيس الجديد، لم يصل إلى السلطة، في ظل أوضاع سياسية مستقرة، فيكون عليه مواصلة السير بالطريقة التراتبية التي تعود عليها الذين سبقوه. لقد وصل السيسي للسلطة بعد “ثورتين”. والثورة عادة تأخذ مكانها احتجاجا على واقع قائم، متطلعة لغد أفضل، تتحقق فيه الأهداف بطريقة غير تقليدية. طريقة خلاقة ومبدعة، تحفز فيها القدرات الذاتية، وتتحقق فيها الأهداف، بذات الروح التي عبرت عنها الثورة.
يضاف إلى ذلك، أن السيسي أصبح بطلا قوميا، في عيون المصريين، قبل أن يتسلم دفة السفينة. وقد غدا في وعيهم الرجل المنقذ، الذي قاد عملية خلاص مصر، من حقبة قصيرة مظلمة في تاريخها. لقد سكن في اللاوعي لدى غالبية المصريين، أن القائد الذي تمكن من قيادة السفينة، وإنقاذ مصر من الاستبداد الإخواني، سيكون هو الأكثر قدرة على مقابلة استحقاقات المصريين، والانتصار لكرامتهم، وحريتهم في المرحلة القادمة.
ولا شك أن هذا اليقين الساكن في عقول المصريين، سيرتب على الرئيس القادم مهمات أخرى، تتسق مع الدور الكبير الذي لعبه في إنجاح ثورة الثلاثين من يونيو.
وهنا تواجه الرئيس الجديد، مهمة الإجابة على أين طريق سوف يختار: طريق الثورة أم طريق الدولة؟. والإجابة على هذا السؤال عملية مضنية وشاقة، لأن كل طريق له آلياته وعناوينه، وحوامله الاجتماعية، وهو مرتبط إلى حد كبير بالوعي والإرادة والقدرة على التنفيذ. ومجالات أي من الطريقين، ليست محلية محضة، بل لها انعكاساتها على التحالفات المحلية والعربية والإقليمية والدولية. ولكل منهما إيجابياته وسلبياته، وكلفه وتبعاته الخاصة.
كانت عوامل الاحتقان، وفشل إدارة الرئيس مبارك في حل المعضلات الكبيرة التي تواجهها مصر، وتراجع مكانتها العربية والدولية قد دفعت بالشباب المصري للنزول إلى الميادين والساحات، وتمكن من إزاحة رئيسين في ثورتين شعبيتين. وكان أهم إنجاز حققه الشعب المصري، هو كسره لحاجز الخوف.
المعضلات التي انتفض من أجلها الشعب المصري كثيرة، ليس أقلها الانفلات الأمني وشيوع ظاهرة الإرهاب، والانفجار السكاني، وبلوغ البطالة مستوى غير مسبوق، وتصاعد مديونية مصر، وتغول مظاهر الفساد، وارتفاع معدلات الجريمة، وفقدان المأوى، وانتشار العشوائيات، في المدن الكبرى. وتصاعد نسبة الأمية، واتساع الفروق بين الغنى والفقر…
بالتأكيد لا يتطلع المصريون، أن يواجه الرئيس الجديد هذه المعضلات، بذات الطريقة التي انتهجها أسلافه. فقد تأكد فشل المحاولات التي انتهجوها، وثبت أنها ضاعفت من المصاعب والمشاكل. وإذا فالمطلوب هي حلول أخرى، تكون متماهية مع الحالة الثورية، التي شهدتها مصر، في الثلاث سنوات المنصرمة، والتي يستمد الرئيس الجديد مشروعيته منها.
ولأن الاقتصاد، هو كلمة السر، في التصدي لمعظم المعضلات، فإن من المهم أن يحدد الرئيس الطريق الاقتصادي الذي سيختاره. هل سيتواصل الاقتصاد الريعي، والاعتماد على القروض والمعونة الأمريكية، والمساعدات التي تقدم من الأشقاء العرب، وبشكل خاص دول الخليج العربي، وكذلك من الاتحاد الأوروبي، أم أن الخيار سيتركز على تحفيز القدرات الذاتية، وحماية الصناعة الوطنية، والولوج في عصر تنمية حقيقي جديد، قادر على وضع مصر في مكانها اللائق بين الأمم.
سؤال، يبدو في الطرح بسيطا، لكنه ليس كذلك. فليس بمقدور مصر، بجرة قلم أن تنتقل من حال إلى حال. ولن يكون موقفا موفقا، في هذه اللحظة التاريخية، على الأقل، أن تحرق القيادة المصرية كل سفنها، في وقت هي أحوج ما تكون فيه لأي دعم مالي واقتصادي. لكن الآخرون لا يقدمون صدقات لمصر، بل يطلبون منها مقابل ذلك أسواق وسياسات وولاءات. وأهم ما يتمسك به المانحون والمقرضون، وعلى رأسهم صندوق النقد الدولي، هو أن تواصل مصر السير على طريق الاقتصاد المفتوح، الذي تقيد فيه سلطة الدولة على الاقتصاد، وتفتح أبواب التنافس الاقتصادي على مصراعيها. لكن السلبي في ذلك، أنه لا يوفر أي سقف لحماية الصناعات الوطنية. وقد جرب ذلك بالعقود السابقة، وفي ظل أربعة رؤساء سابقين، وكانت نتائجه على الصعيد المحلي، غياب التنافس، إن من حيث النوع أو السعر، بين المنتجات الوطنية، والمنتجات الوافدة، سواء من الشرق أم الغرب.
وخلال أربعة عقود من تاريخ مصر، تركزت أنشطة الاستثمارات الأجنبية على القطاعات الخدمية، والسياحية، فكانت النتيجة أنها استنزفت ثروات مصر، من غير أن تقدم لها شيئا يستحق الذكر. يضاف إلى ذلك أنها وضعت سيادة مصر، واستقلالية قرارها رهينة لدى القوى الدائنة، ورسخت نوعا من التبعية الاقتصادية والسياسية.
فهل تختار مصر اقتصادا موجها، يتيح الدولة الإشراف على العمليات الإنتاجية، والسيطرة على الفعاليات الاقتصادية. وبدلا من الاعتماد على الدعم المالي الخارجي، يكون البديل الاعتماد على القدرات الداخلية، وتحفيز الاقتصاد المحلي. ولن يكون بالمستطاع مقابلة حاجات الناس وتلبية استحقاقاتهم، إلا بزيادة الضرائب، بشكل تصاعدي، بما يهدد التوافق الاجتماعي، وربما يؤدي ذلك إلى هروب رؤوس الأموال الأجنبية والمحلية. لكن ذلك، ومع سلبياته، ربما يتيح للدولة، تحديد الأولويات في خطط التنمية، ويجنب الاقتصاد مخاطر الفوضى. ولا شك أن النجاح في البناء الاقتصادي الذاتي، سيمنح مصر قدرة الاحتفاظ على قرارها السيادي، ويضمن استقلالها، ويحد من تبعية سياساتها للخارج.
أي طريق ستختار مصر،الثورة أم الدولة?. يبدو أن الموازنة الدقيقة بين الطريقين هو الحل، على الأقل في هذه المرحلة، إذا أريد لمصر أن تدخل التاريخ، من أوسع بواباته.