مصرع بوتو والأزمة المستعصية في باكستان
وهكذا كان علينا أن نغوص في تاريخ باكستان، لكشف تأثير هذه الوحدانية، وفاعليتها، والآثار التي ترتبت عنها في صناعة هذا التاريخ. لم تنطو الحالة الباكستانية على أي عنصر آخر، في صياغة هويتها غير الدين. فكان أن تمركزت حوله، باعتباره العنصر الوحيد المؤسس والناظم للدولة، كل الضغوط والتحديات. وتحلقت حوله كل القوى الفاعلة في النسيج الاجتماعي، مدعية مسؤوليتها عن حمايته. والنتيجة أن حالة تطرف، غير معهودة في الأمم الأخرى، سادت كل أنشطة الدولة ومجالات حركتها، والقوى الفاعلة فيها. ولا تختلف في هذا التصنيف قوة اجتماعية عن أخرى. فجميعها تلجأ له بوسائل أو بأخرى، من أجل وصولها إلى سدة الحكم، وتكريس هيمنتها.
إن جذور هذا التطرف تكمن أولا في الطريقة التي أوجدت بها الدولة الباكستانية. فقد كان انبثاقها بفعل عملية قيصرية، تمت ختلة وغيلة من قبل البريطانيين. وكان الهدف منها إيجاد إسفين في خاصرة الدولة الهندية، التي تأتي في المرتبة الثانية عالميا بعد الصين، من حيث كثافة تعداد سكانها. وكانت الظروف الإقليمية، ونتائج الحرب العالمية الثانية، وتصاعد دور حركات التحرر الوطني بالعالم الثالث، قد اقتضت إزاحة الاستعمار التقليدي من مناطق تواجده. وكان على البريطانيين أن يرحلوا عن القارة الهندية.
لكن البريطانيين، الذين وجدوا أنفسهم مجبرين على الرحيل، مارسوا ذات السلوك الذي اعتمدوه في عدد من بلدان العالم. وكانت النتيجة انبثاق دولة جديدة تفتقر إلى الوحدة الجغرافية، ووحدة التاريخ. جناحها الشرقي، في أقصى شرق الهند، وجناحها الآخر، في أقصى الغرب. وكان نزوح أكثر من تسعة ملايين، من المسلمين، من مختلف مناطق الهند إلى الدولة الجديدة، ومغادرة ما يقترب من هذا العدد، من الهندوس، إلى الهند، بسبب تفجر الحرب الدينية، قد خلق واقعا مريرا، واجه الدولة الجديدة، وهي لما تزل غضة بعد.
في ظل هذا الاضطراب، ومع حالة الارتباك والقلق التي صحبت الدولة منذ نشوئها، والمصحوبة بمشاكل إقليمية، وبالبروز الحاد لمشكلة كشمير، كان على باكستان أن تعيش حالة تحفز، وأن تجرى عسكرة المجتمع الجديد، منذ وقت مبكر. وكانت النتيجة بروز مؤسسة عسكرية ضخمة، لا تتيح إمكانيات الدولة المالية أو الاقتصادية الاضطلاع بمتطلباتها دون معونات خارجية، هي بطبيعة الحال مشروطة بتبعية سياسية وعسكرية للقوى الداعمة.
وهكذا كان قدر باكستان، أن ترتبط، منذ البداية بالصراع الدولي، وبالحرب الباردة منذ نشأتها. وأن يكون خيارها نقيضا لخيار أمها، أو عدوها اللدود، الهند التي اختارت طريقا ثالثا، تمثل في قيادتها، مع دول أخرى، لكتلة عدم الانحياز، وإنجازها لميثاق مؤتمر باندونج، الذي أعلن عن قيام هذه الكتلة، كطرف، غير منحاز لكتلتي الصراع: الكتلة الرأسمالية، ممثلة في حلف الناتو، والكتلة الشيوعية ممثلة في حلف وارسو. وكان ارتباط باكستان، بحلف بغداد، وحلف المعاهدة المركزية السنتو، ودخولها في ثلاثة حروب مع جارتها الهند، ومساندتها لاستقلال كشمير، أحد التعابير، عن عمق ارتباط مشروع الدولة الباكستانية، بالنظام العالمي الجديد الذي تشكل بعد الحرب الأممية الثانية.
وكان هذا الارتباط أيضا، هو صانع سياساتها وموجه حركتها. وإليه تعزى معظم التغيرات الدراماتيكية والسريعة، المتمثلة في حدوث انقلابات عسكرية متتالية تجاوزت الأربعة، منذ استقلالها. وهو الذي يفسر حالات التوتر، التي ظلت هي السائدة في الغالب، وإليه أيضا تعزى حالات الارتخاء النادرة، التي ترتبط بكرنفالات عودة المدنيين إلى السلطة. والحالتان، كانتا باستمرار إفرازات لأزمة مستعصية، لم تتمكن الانقلابات العسكرية، ولا تداول السلطة بين المدنيين من إيجاد مخرج لها.
في نهاية الستينيات، احتدم الصراع العقائدي، بين الصين والاتحاد السوفيتي. وقد وجدت الولايات المتحدة الأمريكية في هذا الصراع فسحة لطرق أبواب سور الصين العظيم، وكانت لعبة البينج بول هي المفتاح الذي استثمرته إدارة الرئيس الأمريكي، نيكسون، بتوصية من مستشاره لشؤون الأمن القومي، هنري كيسنجر في طرق تلك الأبواب. آنذاك كانت الهند حليفة للسوفيت، وكان الباكستانيون، حلفاء الغرب، بزعامة الجنرال، يحيى خان قد وجدوا في التقارب الأمريكي- الصيني، فرصة ثمينة يمكن أن تستثمر من أجل تحقيق تقارب صيني- باكستاني. وقد تحمس وزير الخارجية، آنذاك، السيد ذو الفقار علي بوتو، ذو الميول اليسارية، لهذه الفكرة، وعمل على تحقيقها، ولم يكن الجنرال الحاكم السيد خان أو وزير خارجيته السيد بوتو يدركان أنها ستكون عقب إيخيل، الذي من خلاله سيجري سلخ الجزء الشرقي من باكستان، لتقام عليه دولة جديدة، على قاعدة الهوية القومية البنغالية، سيطلق عليها منذ تلك اللحظة فصاعدا اسم بنجلاديش.
لقد استغلت رئيسة وزراء الهند، السيدة أنديرا غاندي، الهزيمة الأمريكية في فيتنام، والتي مازالت حاضرة بقوة في ذاكرة الأمريكيين، والتقارب الأمريكي- الصيني، وتقارب باكستان مع الصين، الذي نظر إليه باعتباره موجها ضد السوفيت، ووجود حركة انفصالية قوية، تقودها رابطة عوامي بزعامة السيد مجيب الرحمن، لكي تنال تأييد السوفيت، ودعمهم العسكري الكامل، من أجل احتلال باكستان الشرقية. لم تكن المواجهة العسكرية متكافئة، في العدة والعتاد والخبرة، بين الجيشين الهندي والباكستاني. وقد لعبت الجغرافيا، دورا رئيسيا في هزيمة الباكستانيين، وإعلان قيام دولة بنجلاديش برئاسة مجيب الرحمن عام 1971م.
والنتيجة، بعد ذلك التاريخ، هي اقتصار وجود دولة باكستان، على الجناح الغربي، وبروز نجم ذو الفقار علي بوتو، بشخصيته الكارزمية، كزعيم لباكستان دون منازع. لقد استقال يحيى خان من رئاسة الدولة، بعد هزيمة الجيش الباكستاني، وقيام بنجلاديش. وأعلن عن عودة الحكم المدني، وصدر دستور جديد للبلاد. واهتم الرئيس الجديد بالقضايا الاجتماعية والاقتصادية، وبدأ في انتهاج سياسة دولية متوازنة، لم تجد القبول من الأمريكيين، خاصة أن مؤشرات مواجهة جديدة بين السوفيت والأمريكان على أرض أفغانستان المجاورة قد بدأت ملامحها تلوح بالأفق، إثر نجاح الانقلاب الذي أطاح بالملك ظاهر شاه، وأعلن الجمهورية فيها. فكان لا بد من اللجوء مرة أخرى إلى العسكر، لإعادة تثبيت موقع باكستان في المعادلة الدولية، باعتبارها منطقة حيوية واستراتيجية للغرب، في صراعها مع السوفيت. وكان أن اضطلع الجنرال، محمد ضياء الحق بتلك المهمة عام 1978م. وألغى الدستور الذي جرى التصويت عليه عام 1973م.
على مذبح المصالح الغربية، جرت تصفية ذو الفقار بوتو جسديا، في باكستان، بعد محاكمة افتقرت لعناصر العدالة، كما جرت تصفية خصمه اللدود، مجيب الرحمن جسديا، في انقلاب عسكري حدث في بنجلاديش وأزاح رابطة عوامي عن الحكم.
ولأن التطرف، أصبح الظاهرة البارزة المرتبطة بباكستان، منذ استقلاله، وقد ثبت في كل المراحل، أن البيئة بقيت ملائمة لمعاودة إنتاجه، فقد قتل الجنرال ضياء الحق في حادث تحطم طائرة، بقيت أسبابه غامضة حتى يومنا هذا. وأعيد الحكم المدني، بعد انتخابات عامة فاز بها حزب الشعب، بزعامة بي نظير بوتو التي أصبحت رئيسة للوزراء، لدورتين انتخابيتين.
وفي كل الأوقات بقي التطرف في باكستان هو القانون العام. تطرف في الجوع حيث يلقي بكلكله على الملايين، المحرومين من السكن والغذاء… وتطرف في السلم الاجتماعي بين الفقر والغنى… وتطرف في الأمية حيث يتجاوز انتشاره ال 80% بين صفوف الباكستانيين. وتطرف في رفض الرأي الآخر، حيث الاحتكام باستمرار إلى السلاح، كملجأ وحيد لحسم الصراعات السياسية المستمرة. وتطرف في التبعية للخارج، حيث لا سبيل لتسيير أمور الدولة دون الحصول على المساعدات والقروض من الخارج. وبون شاسع بين الوضع المعيشي للناس، وبين تقدم الآلة العسكرية، التي بلغت حد حيازة السلاح النووي، لتبقى هي وعدوها اللدود الهند الدولتين الوحيدتين اللتين تعلنان عن حيازتهما للقدرات النووية خارج دائرة الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن الدولي.
حالة تطرف ستستمر إلى ما لا نهاية، طالما بقيت الهوية ترتكز على عنصر وحيد، لا تدعمه حقائق الجغرافيا والتاريخ والعيش المشترك. وطالما استمر طابع الصنعة والتلفيق في صناعة نموذج الدولة. لابد من تعدد أفقي لعناصر مشروعية وجود الدولة، لكي تتواءم مع عناصر تشكيل الدولة الحديثة، وما لم يتحقق ذلك، فستستمر الأزمة كما هي مستعصية، فيكون مصرع السيدة بي نظير بوتو مجرد وجه واحد من إفرازات وحدانية الهوية الباكستانية وتجلياتها.