مشاريع التفكيك في عالم متغير
من أجل إزاحة العثمانيين عن المشرق العربي، وبناء دولة عربية مشرقية قوية.
اصطدم الحلم بسايكس- بيكو ووعد بلفور. فكانت الحقبة الثانية من مشروع اليقظة هي مواجهة الاستعمار التقليدي، الذي فرض حقائق جديدة على أرض الواقع. فالعرب الذين واجهوا العثمانيين بأرضية مشتركة وبرنامج واحد، وجدوا أنفسهم، يقارعون الاستعمار، كل على حدة. ولم يمتلك قاعدة الحراك الوطني في البلدان العربية التي عملت على تحقيق الاستقلال، برنامج مشترك، كما أن حركات التحرير لم تنطلق في زمن واحد، بل حكمتها طبيعة ومستوى المواجهة مع المحتل.
والنتيجة أننا حين حصلنا على الاستقلال، لم نتمكن من التخلص من تركته بشكل كامل. فقد بقيت حدود القسمة بين البريطانيين والفرنسيين قائمة، وغدت حدودا معترفا بها للدول التي تمكنت من إنجاز استقلالها السياسي. وقد غيبت فرحة الاستقلال، أن الوجه الآخر له، وجه وحدة المشرق العربي، في كيان أو اتحاد أمست من برامج الماضي. وكانت أهم ملمح من ملامح الاستقلال، حيث باتت الكيانات القطرية أمرا واقعا، ويحظى بشرعية وتوافق دوليين.
في المرحلة الرابعة، المرحلة التي أعقبت مرحلة الاستقلال، عانت مشاريع النهضة العربية، من صراع حاد بين عناصرها الرئيسية، بين الحرية والعدالة. ففي مرحلة الحرب الباردة أصبح شعار الحرية، شبهة تضع المطالبين بها في خانة المعسكر الآخر. واستمر ذلك لعدة حقب، لحين سقوط جدار برلين، حين انعكس الواقع، فصار شعار الحرية، يطغى على كل الشعارات، وصارت المطالبة بالعدالة تعني عدمية وتخشبا.
وقد عبد غياب الربط والوحدة بين العناصر اللازمة للنهضة، الطريق لبروز مرحلة القبول بالتدخلات الخارجية، من قبل بعض المعارضات العربية. وكان احتلال العراق، في ابريل عام 2003م، قد وضع المدماك الأول في مشاريع التفكيك، التي برزت بوضوح بعد اندلاع الحركة الاحتجاجية في نهاية عام 2010.
ورغم مضي اثني عشر عاما على الاحتلال الأمريكي، لا يزال العراق، يعيش إفرازاته.ولن يكون بمقدوره تجاوز أزماته، إلا بإلغاء العملية السياسية التي هندس لها المحتل، والقائمة على القسمة بين الطوائف الدينية، والأقليات الإثنية، وتحقيق مصالحة وطنية تنأى عن الإقصاء والتهميش، وبناء جيش وطني قوي، بعقيدة قومية. وذلك أمر لا مناص من تحقيقه إذا ما أريد خلق عراق قوي، وقادر على الولوج في تنمية مستقلة حقيقية. وهذه العناصر، ربما تشكل آلية للحل، في عموم المناطق العربية، التي طالها الخريف العربي، والتي آلت إلى الخراب والتمزق,
الحقبة الأخيرة، لا تزال في بداياتها, وتتمثل في إمكانية بروز عالم متعدد الأقطاب، لعل أبرز مؤشراته، الصعود الكاسح لاقتصاد الصين، و عودة روسيا بوتين بقوة إلى لعب أدوار رئيسية بالمسرح الدولي. ولا شك أن هذا الدور، إذا ما تواصل بقوة سوف يخلق حقائق جديدة.
فلن يكون في مصلحة أي من القوى الدولية، في عالم متعدد الأقطاب، استمرار مشاريع التفكيك. فكل قوة كبرى، ستعيد ترتيب أوراقها على قاعدة وجود وكلاء أقوياء لها في المنطقة، ولن يكون في مصلحتها استمرار مشاريع التفكيك. بمعنى أدق، بات مشروع صياغة سايكس بيكو جديدة، تتماهى مع الأوضاع العربية المزرية من الماضي.
لقد درجت الولايات المتحدة في الحديث عن إعادة النظر، في سايكس بيكو، وخلق بديل عنها يعتمد على تجزئة المجزأ وتقسيم المقسم، بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة. وفي حينه وردت إشارة عن النية في أن يتضمن النظام العالمي الجديد، المنبثق من ركام الحرب، تغيير خرائط منطقة “الشرق الأوسط”. لكن اندلاع الحرب الباردة بين أمريكا والاتحاد السوفييتي فرض حقائق جديدة، ثبتت وجود الكيانات القطرية، وأعاقت مشروع صياغة سايكس – الجديدة.
فبعد امتلاك القوة النووية لدى القطبين العظميين، لم يكن بالإمكان أن تحدث بينهما مواجهة عسكرية مباشرة. واستبدلت الصراعات العسكرية بينهما، بصراعات يشنها الوكلاء بالنيابة، وبرز خلال عقود الحرب الباردة ما عرف بـالحروب بالوكالة.
مشاريع التفكيك، جرى معاودة الحديث عنها في منتصف السبعينيات من القرن المنصرم، حيث أشارت في حينه بعض مراكز الأبحاث، إلى العراق باعتباره منطقة رخوة، وأن اتفاقية سايكس- بيكو لم تأخذ بعين الاعتبار مصالح المظلومين من الأقليات الدينية والقومية. وقد وضعت تلك المقدمات التنظير الذي برز مع مطالع التسعينيات لمشروع الشرق الأوسط، الذي نظر له شمعون بيريز. وجاءت تصريحات وزير الخارجية الأمريكي، جيمس بيكر أثناء انعقاد مؤتمر السلام في مدريد حول ضرورة إعادة تشكيل خارطة الشرق الأوسط، لتصب في هذا الاتجاه.
لكن مشاريع التفكيك لم تنشط بشكل جدي وسريع، إلا بعد انتهاء الحرب الباردة، ووصول المحافظين الجدد لسدة الحكم بالولايات المتحدة. وفي فترة قصيرة جدا في التاريخ، لكن كوارثها بالنسبة للعرب، كانت كبيرة.
عودة التعددية القطبية، تعني حكما نهاية عقيدة المحافظين الجدد. وعودة الروح للمبادئ الناظمة للعلاقات الدولية، والقائمة على احترام سياسة الدول، وعدم التدخل في شؤونها الداخلية.
ولي من شك أن السردية التاريخية، لما حدث بالمنطقة بعد الحركة الاحتجاجية التي شهدتها بعض الأقطار العربية، لن تكون كافية، وستظل مبتسرة، إن لم يتم ربطها بالتحولات الكونية، التي جرت مؤخرا، والتي من شأنها إنهاء حقبة مشاريع التفكيك.