مسلسل الاغتيالات في مستوى غير مسبوق
د. يوسف مكي
ظلت الاغتيالات السياسية، من الظواهر المألوفة، منذ القدم. وفي التاريخ المعاصر، يعزي لها بعض المؤرخين لتاريخ الحرب العالمية الأولى، السبب في اندلاع تلك الحرب. فقد كان من أسبابها، إقدام طالب صربي يدعى غافريلو برينسيب، في 28 حزيران/ يونيو 1914، على اغتيال ولي عهد النمسا فرانز فرديناند وزوجته أثناء زيارتهما لسراييغو. وقد تسببت ذلك في اندلاع الحرب الكونية الأولى، الذي نتج عنها مصرع ستة عشر مليون شخصا. وشاركت فيها من جانب دول الوفاق، بريطانيا وأيرلندا وفرنسا، في مواجهة دول المركز: ألمانيا والنمسا والدولة العثمانية.
ورغم ما تركته الحرب من آثار مدمرة، على العالم بأسره، فإن ما أعقبها من أحداث، أكد أنها حرب لم تكتمل. فمع حلول عام 1928، بدأت أوروبا، والعالم بأسره، تشهد كسادا اقتصاديا كبيرا، لم يكن بالمقدور وضع حد له، بالنسبة لصانعي القرار، سوى بشن حرب كونية ثانية، أكثر فتكا ودمارا. وكانت عمليات الاغتيال والتصفية فيها جمعية، ضحاياها الملايين من البشر.
بالوطن العربي، يعزى للدولة اليهودية أنها السباقة، لاعتماد الاغتيال، نهجا لها منذ بداية تأسيسها، في نهاية الأربعينيات من القرن المنصرم. وقد واصلت هذا النهج، في محطات عدة، حتى يومنا هذا. ولم تقتصر اغتيالاتها على السياسيين والرافضين لسياساتها، بل شملت العلماء والخبراء العرب، الذين كان وجودهم، سيسهم في تطوير التكنولوجيا والصناعات العربية. ولم تستهدف اغتيالاتها بلد عربي بعينه، بل شملت معظم البلدان العربية.
في الخمسينيات، أقدمت الحكومة الإسرائيلية، برئاسة ديفيد بن غوريون، على عمليات تفجير استهدفت مقرات تجارية أمريكية، في محاولة لوضع إسفين مع القيادة المصرية، التي تسلمت الحكم بعد تغيير النظام السياسي، في 23 تموز/ يوليو 1952. وتواصل نهج الاغتيالات في العدوان الثلاثي على مصر، عام 1956، وإثر حرب حزيران/ يونيو عام 1967. وأثناء حرب الاستنزاف، جرى اغتيال رئيس الأركان المصري، عبد المنعم رياض أثناء زيارته لخطوط الجبهة، على الضفة الغربية لقناة السويس.
وكانت حصة الفلسطينيين، من الاغتيالات الإسرائيلية، نصيب الأسد، حيث جرت ملاحقة المناضلين الفلسطينيين في كل مكان، شملت دولا أوروبية، وبلدانا عربية، في لبنان وسوريا وتونس. ولم تتوقف عمليات الاغتيال طيلة تاريخ المواجهة بين العرب وإسرائيل.
وحين تأسست حركة حماس، في قطاع غزة، تمت تصفية قادتها جسديا، الواحد تلو الأخر، ابتداء من مؤسسها الشيخ أحمد ياسين، إلى عبد العزيز الرنتيسي، الذي اغتيل في 17 نيسان/ابريل 2004. بعد اندلاع ما بات معروفا بطوفان الأقصى، الذي أقدمت عليه حركة حماس، عملت إسرائيل على استهداف قادة الحركة، فجرى اغتيال صالح العاروري في 2 كانون الثاني/ يناير من هذا العام، وتمكنت إسرائيل أيضا من اغتيال زعيم الحركة إسماعيل هنية، في 31 تموز/يوليو، أثناء زيارته لطهران، للتهنئة بانتخاب رئيس جديد للجمهورية الإسلامية.
اغتيال زعيم حزب الله، السيد حسن نصر الله، يأتي في سياق متصل من الاغتيالات، التي باتت منهجا مألوفا ومعتمدا من قبل الحكومات الإسرائيلية المختلفة. وكانت حصة حزب الله، في الاغتيالات الإسرائيلية كبيرة، خاصة بعد إعلان الحزب إسناده لحماس، في مواجهة حرب الإبادة التي تشنها حكومة بنيامين نتنياهو، في قطاع غزة. وكان أبرز تلك الاغتيالات التي شملت قادة الحزب في الآونة الأخيرة، اغتيال فؤاد شكر، الذي هو بمثابة رئيس الأركان في حزب الله، في 30 تموز/ يوليو من هذا العام.
وكنا في الحديث السابق، قد أشرنا إلى عملية البيجرات والواكي توكي، التي استخدمتها إسرائيل، وسائل لقتل المدنيين والأبرياء، من الذين لم يكن لهم ناقة ولا جمل في المواجهة مع الحزب، في حرب إبادة غير مسبوقة في التاريخ، أمام أنظار ومسمع العالم بأسره، تسببت في مصرع وجرح الآلاف من المواطنين اللبنانيين.
عملية التفجير، التي ارتكبتها حكومة نتنياهو، في الضاحية الجنوبية لبيروت، بتاريخ 27 أيلول/سبتمبر، والتي كان قائد حزب الله أحد ضحاياها، هي جريمة بكل المقاييس، استخدم فيها عشرات الأطنان من المتفجرات، وأدت إلى تدمير ست مباني بساكنيها، جلهم من المدنيين، ينبغي ألا تمر هذه العربدة، أمام العالم، من غير حساب. وللأسف فإن هذه الجريمة تحظى بدعم واسع ومطلق من إدارة الرئيس الأمريكي، جوزيف بايدن، التي وقفت ولا تزال تقف مقدمة الدعم لحرب الإبادة التي تشنها حكومة نتنياهو، في قطاع غزة، ومؤخرا في لبنان.
والمسؤولية تقع بالدرجة الأولى، على القوى الكبرى، وبشكل خاص روسيا والصين. ولن يكون مقبولا تعلل روسيا، بانشغالها بالعملية العسكرية الخاصة التي تشنها على أوكرانيا. كما لن يكون مقبولا أيضا، تذرع الصين، بانشغالها بمشاكلها في بحر الصين، ومع حكومة تايوان. إن مثل هذه الذرائع تعني سيادة قانون الغاب، وتعطل دور المؤسسات الناظمة للعلاقات الدولية، وعلى رأسها مجلس الأمن الدولي، والجمعية العامة للأمم المتحدة.
إن مسؤولية الدول الكبرى، في حماية القانون الدولي، هي مسؤولية أخلاقية وإنسانية، ومحاسبة القوى التي تضرب بالمبادئ والقوانين الدولية عرض الحائط. وإذا لم يتم التصدي لتلك القوى، فإن البديل عنها هو العودة للمرحلة التي انعدمت فيها قوانين الاستقلال والسيادة والكرامة الإنسانية، وانفلات الأمن الدولي، فهل تتحرك البشرية لتغيير هذا الواقع قبل فوات الأوان؟!
التعليقات مغلقة.