مرة أخرى: من وحي الملتقى الثالث للحوار الوطني
كثيرة هي المواضيع التي نوقشت في الملتقى الثالث للحوار الوطني الذي عقد في مدينة يثرب، مثوى الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم. وكثيرة أيضا هي المسافات والاختلافات في الرؤى والأفكار التي طرحت أثناء مناقشة مختلف المحاور. وتلك أمور لا ضير فيها ما دمنا نؤمن بأن سنة الحياة تقتضي التنوع، وما دمنا نؤمن بأن صراع الأزهار من شأنه أن يولد زهرة على طريق بناء الوطن وتقدمه ونهضته
ليس حوارا وطنيا أبدا أن تلتقي مجموعة النخب الفكرية والثقافية لتعيد استنساخ مقولاتها وآرائها كلما جد من حولها جديد. ولن يكون ما ينتج عن ذلك الاستنساخ إلا صدى واهنا لعلب جاهزة، ولآراء وأفكار متكلسة تجاوزها العصر بفعل التراكم التاريخي وقوانين التطور، وأيضا بفعل التغيرات الهائلة والأحداث العاصفة التي تجري من حولنا. الحوار الخلاق سمته الاستجابة الواعية والعميقة لقوانين عصره، والمساهمة في صياغة ردود فعل إبداعية وواعية موازية للخطوب التي يتعرض لها المجتمع في مرحلة ما من مراحل حياته.
ولا شك أن هذه الاستجابة ينبغي أن تنطلق من التسليم بأن الهوية الإنسانية ليست شأنا ساكنا وثابتا, وأنها في الوقت الذي تعبر فيه عن خصائص ذاتية: دينية وتاريخية ولغوية ونفسية، فإن من الأهمية ألا يغيب عن البال أن تلك الخصائص قد نتجت عن تقاليد ومواريث تراكمت عبر حقب تاريخية طويلة، ولم تكن حاصل مرحلة بعينها، وأنها أيضا تكونت نتيجة تفاعل المجتمع مع وضع إنساني عالمي فوار متغير، وأنها في أحد تعابيرها حاصل إفرازات موجات ثقافية ونماذج حضارية مختلفة. وإذن والحال هذا، فإنها نتاج تاريخي وجغرافي، كونها تستمد محتواها من الزمان والمكان. والزمان هنا يعني البعد التاريخي الشامل الذي يصنع تاريخ الأمة، أما المكان فيشمل كل ما له علاقة بالجغرافيا في تكوين الهوية، ومن ضمن ذلك ما هو إنساني من الأفكار والمعتقدات والفنون والإبداعات والآداب، محلية ومحيطة ووافدة ومؤثرة.
هذه المقدمة تبدو ضرورية ونحن نناقش بعض الأطروحات التي جرى التركيز عليها من قبل عدد لا بأس به من الإخوة المحاورين في الملتقى الثالث للحوار الفكري. لعلي أركز في هذا الحديث على جانبين منها فقط: الخصوصية السعودية التي استخدمت كثيرا ككرباج يشهر في مواجهة أي مطلب لتحديث أو تغيير في البنية الثقافية والفكرية لمجتمعنا، وبشكل خاص ما يتعلق منه بحقوق المرأة. والثاني هو التركيز على التخصص، وقد كان ذلك أيضا سيفا مسلطا على كثير من الإخوة والأخوات الذين استخدموا آيات قرآنية كريمة وأحاديث نبوية شريفة ليعززوا من موقفهم المنادي بالإصلاح والتطوير.
والواقع أنني شخصيا لفرط ما سمعته عن الخصوصية السعودية، حسبت للحظة أننا في كوكب آخر، ولسنا على هذه الكرة الأرضية ولسنا جزءا من عالم إسلامي كبير. واستحضرت، كي أعيد التوازن لنفسي، ما تعلمناه في كتب التاريخ والأدب، وكتب التوحيد والفقه ونحن لم نزل أطفالا صغارا. استرجعت ذاكرتي ما تعلمته عن العصور الذهبية للإسلام والمسلمين، وكيف سادت في المجتمع الإسلامي مذاهب فلسفية ودينية متعددة. كان بين الفلسفية منها آراء المرجئة والقدرية والمعتزلة والأشاعرة والمتصوفة، وكان بين مذاهب المسلمين من أهل السنة أربعة هي المالكية والحنفية والشافعية والحنبلية، عدا مذاهب الشيعة وهي عديدة. وحضرني أيضا ما تعلمناه في المدارس منذ نعومة أظفارنا من أن الإسلام هو دين الفطرة. وجلت في قائمة طويلة من أسماء العلماء الأجلاء، وبرز لي في الحال أن معظمهم لم يكونوا من جزيرة العرب، بل كان منهم الشامي والعراقي والأفغاني والتركي والمصري والفارسي والمغاربي، وكثير من هؤلاء لهم دور لا يستهان به في جمع وتفسير الأحاديث النبوية والمسائل الفقهية وتفسير الأحكام، بما في ذلك أحكام القضاء الذي تأخذ به محاكمنا.
حمدت الله كثيرا على هذه النعمة. لقد كدنا ننسى أن ديننا هو دين عالمي جاء لإنقاذ البشرية جمعاء, وأن أكرمكم عند الله أتقاكم، وألا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى. أو ليس من هذه النعمة أن لدينا مذاهب إسلامية عديدة، وأن أبواب الاجتهاد مفتوحة، وأن للمجتهد إن أصاب أجرين وإن أخطأ فله أجر واحد؟.
تساءلت مع نفسي: لماذا إذن يركز كثير من الإخوة على الخصوصية السعودية حين نتكلم عن التطوير؟ ووجدت أنني لم أكن على حق في طرح السؤال. ذلك أن الصراع بين الأفكار ليس وليد هذه اللحظة، ويجب ألا يستفزنا في كل الأحوال. وقديما كان للفكر التقليدي مقولته المشهورة: “ليس بالإمكان أبدع مما كان” وكان له أيضا “لا جديد تحت الشمس” مع أن التطور التاريخي أثبت بشكل لا يقبل الجدل أن بالإمكان السير بعملية الإبداع والتطوير خطوات متقدمة إلى الأمام، وأن بإمكاننا أن نبدع بأكثر مما كان. ومع إشراقة كل شمس، هناك مبان تقام ومصانع تشيد ومدارس تفتح، وأطفال يفتحون عيونهم لأول مرة في هذا الكون، يبعثون لنا أملا جديدا ومستقبلا واعدا. كل الجديد إذن تصنعه السواعد الفتية وإرادة البناء والبقاء.
وحين عدت للنقطة الثانية التي استخدمت التخصص سيفا مسلطا على كل دعوة للتغيير، محتكرة لنفسها مجمل القول الفصل في كل المجالات. تذكرت أن علماء الماضي لم يكن لديهم مثل هذا الذي لإخوتنا. فقد كان العالم فيلسوفا محيطا بكثير من علوم عصره. فهو مبدع في الرياضيات والفلك والجبر والفيزياء والفنون والآداب، إضافة إلى إحاطته بعلوم الدين، وعلوم الأولين والآخرين. وحضر للتو تلك الصراعات الفكرية بين مدارس البصرة والكوفة، والخلافات بين مذاهب أهل العراق وأهل الحجاز، وصولا إلى الصراع بين الأشعرية والمعتزلة، وبين الغزالي في كتابه تهافت الفلاسفة وابن رشد، في كتابه تهافت التهافت، ومطارحات الجاحظ في رسائله وكتابه البيان والتبيين. لم يرفع أي من المحاورين ذلك الكرباج ولا هذا السيف في وجه صاحبه، بل كانوا يقارعون بعضهم بعضا بالحجة والبرهان. فكانت النتيجة خصبا فكريا رائعا وعطاء خالدا ميز الحضارة العربية الإسلامية، في عصرها الذهبي.
إن ما يبعث على التفاؤل والأسى في آن واحد أن التاريخ لا يتوقف، وأن حركته تستمر في خط بياني متصاعد نحو إبداع أرقى وأوسع. لكننا في ذات الوقت لا نرغب في أن نكون خارجه أو من خلفه أو عبئا عليه.
لقد وقف الحرفيون في أوروبا حين انطلقت الثورة الصناعية الجبارة ضد التكنولوجيا، ورفعوا شعار “حطموا الآلات”، لكن قوانين التطور قد دحرت الصناعات البدائية، ومعها اندحر الحرفيون. وأخذت الثورة الصناعية الثانية مكانها، ومن ثم شهد العالم ثورات صناعية أخرى. وها نحن الآن على أعتاب مزيد من ثورات التقدم في مجالات الاتصالات والإلكترونيات والإنترنت والبيولوجيا. وليس في وسع أمتنا، بل إنه ليس في مصلحتها أن ترفع مثل هذا الشعار الآن، حتى وإن كان بجمل وتعابير أخرى. ولسوف تستمر القافلة، ويستمر التطور، وتسير البشرية بخطى حثيثة وثابتة نحو الرقي والتقدم والازدهار.
إما أن نلحق بالعصر، وهو قدر لا مفر منه إذا أردنا أن نكون صناعا وفاعلين في ركب الحضارة الإنسانية، أو نكون عبئا على هذه الحضارة. ذلك هو السؤال، ولا خيار..
yousifsite2020@gmail.com
د. يوسف مكي
تاريخ الماده:- 2004-06-30
التعليقات:
2020-06–0 4-:02
عبد اللرحمن بعثمان من الجزائر
ان الفكر الاعتزالي الذي تميز به الجاحظ انعكس بلاشك على كتاباته التاريخية او التى يعتمد عليها في البحوث التلريخية، فهلاخصصتم وفقة لهذا العلم الكبير من هذه الناحية