مرة أخرى: من التجزئة القطرية إلى التفتيت الطائفي

0 228

في الحديث السابق أشرنا إلى أن المشروع الأمريكي، لتفتيت الدولة القطرية قد بدأ الإفصاح عنه منذ منتصف السبعينيات من القرن الماضي. وأنه ارتكز على استثمار القنابل الموقوتة التي صنعها الإستعمار التقليدي في نهاية الحرب العالمية الأولى. وأشرنا أيضا إلى أن احتلال العراق كان هو المقدمة في المشروع الذي اعتمده المحافظون الجدد، ومارسوا تنفيذه على الأرض في بلاد الرافدين. وكانت الإدارة الأمريكية قد درست بعمق لوحة العراق الفسيفسائية، ومكونات النسيج العراقي، وأثر العوامل المحيطة في تكوين ذلك النسيج، وبخاصة علاقة الجوار التي تربط العراق بتركيا وإيران. لقد قمنا بمقارنة سريعة للدور الذي لعبته حقائق الجغرافيا في صياغة خارطة المجتمع العراقي، السياسية والدينية، استخلصنا منها أن تلك الحقائق خدمت، فيما مضى، كثيرا إيران الصفوية، رغم أن العثمانيين سيطروا طويلا على العراق، حتى تمت هزيمتهم في الحرب العالمية الأولى. وكان علينا بعد ذلك أن نستعين بالتاريخ، الذي كان محيدا لفترة طويلة في علاقة العرب بالأتراك، إلى حين قيام السلطنة العثمانية، في حين كانت أوضاعه معقدة ومشحونة بتفاعلات وتجاذبات وتشابكات وصراعات حين يتعلق الأمر بعلاقة العرب مع الفرس.

 

ما علاقة ذلك بالمشروع الأمريكي التفتيتي الذي يجري تنفيذه الآن على أرض الرافدين؟

 

وللإجابة على ذلك، نذكر أبتداء بأن العدوان الأمريكي على العراق الذي انتهى باحتلاله عام 2003، ما كان له أن يأخذ مكانه ويتحقق فعليا على الأرض لولا الدعم اللوجستي الذي قدمته عدة حكومات عربية. وهذا يعني أن هذه الحكومات تتحمل مسؤولية أخلاقية وقومية فيما آلت له الأمور من انهيار وتدهور وسقوط لمفهوم الدولة الحديثة في العراق الشقيق. لكن ذلك، رغم فداحته ومرارته، ما كان له أن يؤدي بمفرده إلى النتائج الكارثية التي تشهدها الساحة العراقية، من قتل على الهوية، وتنكر للإنتماء العربي، وتهجير للسنة من عاصمة الرشيد إلى الأنبار. إن الذي مكن من تحقيق حالة التشظي والتفتيت في المجتمع العراقي، هي القنابل الموقوتة التي زرعها المستعمرون في البلدان العربية أثناء تقاسهم تركة السلطنة العثمانية، وهيمنتهم على المنطقة، والتي أشرنا لها في جملة من الأحاديث السابقة، وأيضا العلاقة التكاملية التي ربطت المحتل الأمريكي والقيادة الإيرانية، وأيضا علاقة إدارة الإحتلال مع الميليشيات الطائفية التي نشأت بدعم وتأييد وتحريض من إيران، وهي علاقة تكشفت منذ اليوم الأول الذي وطأت فيه أقدام المحتلين، عاصمة الرشيد، وتكشفت بوضوح إثر قيام الحكومة الإنتقالية على أسس طائفية وإثنية. وهذه الميليشيات هي ذات القوى التي تقود فرق الموت، حسب اعترافات مسؤولين أمريكيين، وهي التي تمارس التهجير القسري والتجريد من الممتلكات لأهالي مدينة بغداد، والقضاء على الهوية العربية، وإلغاء مرتكزاتها في عموم العراق. وهي أيضا التي تدعم العمليات الإستيطانية الفارسية التي تجري في عدد من المدن العراقية، وفي المقدمة منها مدينة البصرة.

 

ولعلنا لا نأتي بجديد، حين نقول بأن معظم البلدان العربية قد رزحت طويلا تحت الإستعمار الغربي التقليدي. وكان للبريطانيين والفرنسيين الدور الأبرز بين المحتلين لهذه البلدان. احتل البريطانيون مصر والعراق والسودان وفلسطين والأردن واليمن الجنوبي ومشيخات الخليج العربي وجزء من الصومال. واحتل الفرنسيون سوريا ولبنان والجزائر وتونس والمغرب وجزء من الصومال. وكان الطابع الإحتلالي لتلك البلدان عسكريا، ولم يكن استيطانيا. كانت الجزائر هي البلد العربي الوحيد الذي حاول الفرنسيون خلق حالة استيطانية فيها، بنسب لم تكن مفرطة، وفشل الإستيطان في مهده أمام ضربات المقاومة الوطنية الجزائرية.

 

وفي كل بلد عربي تم احتلاله من قبل المستعمرين الغربيين التقليديين، جرت عملية نهب منظمة للثروة، وهدرت الحقوق وامتهنت الكرامات. لكن المستعمر في النهاية اضطر إلى الرحيل، أمام مقاومة السكان المحليين. وبقيت البلدان العربية محتفظة بهويتها ولغتها وتراثها. لكن الحال، اختلف كثيرا مع المشروع الصهيوني في فلسطين، الذي كان منذ بدايته مشروعا استيطانيا، اعتمد سياسة مصادرة الأرض وإحلال سكان غرباء عن تربة الوطن، بديلا عن السكان الأصليين الذين جرى تهجيرهم خارج وطنهم، وأصبحوا حتى يومنا هذا لاجئين يتطلعون إلى استرداد حقوقهم المغتصبة والعودة إلى ديارهم.

 

كانت هناك حالات مشابهة إلى حد كبير من حيث توسيع دائرة الإستيطان لسكان غرباء، لأقاليم عربية أخرى، كالإسكندرونة، الإقليم الذي تم سلخه عن سوريا، في ظروف دولية بالغة التعقيد، في نهاية الحرب العالمية الأولى، وإمارة عربستان، الإقليم الذي احتله الفرس عام 1925. وفي كلا الإقليمين تمكن المحتلون من مصادرة الهوية العربية، عن طريق تكثيف الهجرة الإستيطانية، وتشجيع وإغراء السكان من بلد الإحتلال، على الهجرة إلى المدن العربية المحتلة. وهكذا، جرى تتريك وتفريس الإقليمين العربيين بشكل منهجي ومنظم، وتم إلغاءهما من الخريطة السياسية للوطن العربي، ولم تعد جامعة الدول العربية، أو القيادات العربية معنية بشؤون العرب فيهما. بل إن كثيرا من الكتاب أصبحوا يتحدثون عن وجود عرب أتراك وعرب إيرانيين، ليس إلا، وليس عن أرض عربية، تحت سيطرة الأتراك والفرس.

 

ما يجري الآن في أرض العراق، من تهجير للعرب عن مناطقهم، وتوطين فارسي يأخذ طابعا توسعيا، يفرض نفسه بجلاء في مدينة البصرة، يعيد إلى الذاكرة بقوة ما جرى في إمارة عربستان. فهذه الإمارة جرت عملية تفريسها بشكل منهجي ومتسارع. وكانت حتى وقت قريب تتمتع باستقلالها، وتضم ثلاث مدن عربية رئيسية هي عبدان والمحمرة والأحواز، إضافة إلى عدد كبير من الأرياف والقرى والبلدات. وحتى عام 1925، كان يحكمها شيخ عربي هو خزعل بن جابر الكعبي، الذي عرف عنه تمسكه بعروبته. وقد واجه بشجاعة واستبسال محاولات الفرس لاحتلال بلاده. لكن الحكومة الإيرانية تمكنت في النهاية من أسر الشيخ، وصودرت أملاكه، ونقل إلى طهران، حيث بقي سجينا حتى وفاته عام 1936.

 

وقد كان لإقليم عربستان، أثناء استقلاله أدوارا ريادية في بدايات القرن العشرين وما قبلها، وبالخصوص الدفاع في وجه الغزوات التي كانت تواجهها مشيخات الخليج العربي من قبل البرتغاليين والهولنديين والبريطانيين والدفاع عن العراق بشكل خاص. وكانت للشيخ خزعل مواقف ثابتة في مواجهة الغزوات الإستعمارية والدفاع عن الأراضي العربية وشعوبها من التدخلات الأجنبية.

 

إن عملية التفتيت التي تجري على قدم وساق في بلاد الرافدين، تجعل ما جرى لإمارة عربستان، ماثلا أمامنا بقوة. إن عملية نحر العراق والقضاء على هويته، تأخذ الآن أشكالا عدة. فهي من جهة تعتمد على تسعير الصراع الطائفي، والتنكر لكل ما هو عربي، وتحقيق التطهير المذهبي في مدينة بغداد، وفقا للمشروع الأمريكي وبتعاون وإسناد من الميليشيات التي تسيطر على عدد كبير من المقاعد بالبرلمان، وفي الحكومة المعينة من إدارة الإحتلال، والتي يرأسها المالكي الذي كان يعمل في الأصل نائبا لرئيس حزب الدعوة، المدعوم من إيران. ومن جهة ثانية، يتمثل في إيجاد مكاتب وممثليات إيرانية، في جميع المدن الرئيسية العراقية من أقصى الشمال بمدينة أربيل إلى أقصى الجنوب، في البصرة، لتطبيق أجندة إيران الهادفة إلى إضعاف العراق، كقوة يظل احتمال مواجهتها عسكريا، بالنسبة للإيرانيين، ماثلاباستمرار، كما تؤكده الوقائع التاريخية.

 

ولو تحقق، مشروع التفتيت وتسعير الفتنة الطائفية في العراق، لا سمح الله، فإن المنطقي هو أن يمتد أوار هذه الفتنة والتفتيت إلى عموم المنطقة، وبخاصة حيث يوجد التنوع الطائفي لتساهم في زعزعة الأمن والإستقرار، وتهدد المستقبل العربي بأسره. ومن هنا ينبغي علينا جميعا العمل على إعادة تحديد سلم الأولويات في مواجهة الأمة مع خصومها، وفقا للمتغيرات والمستجدات. وأيضا وفقا للحقائق التي نتجت عن قيام الدولة القطرية، ومشكلاتها، والقنابل الموقوتة الكامنة فيها، ونوعية الإستجابة المطلوبة للتصدي للمخاطر، بما ينسجم مع متطلبات الولاء للتربة الوطنية. فمع الإقرار بأن صراع الأمة العربية الرئيسي، هو مع الكيان الصهيوني، وبأن قضية فلسطين، هي القضية المركزية للعرب جميعا، فإنه ينبغي التأكيد على أن ذلك ليس مرتبطا فقط بالكرمة وشجرة الزيتون الفلسطينية، ولكن أيضا لأن الوجود الصهيوني هو تهديد حقيقي للأمن القومي العربي. وحين يتواجد هذا التهديد في مكان آخر، ويصبح خطرا وتهديدا حقيقيا ماثلا على الأمن الوطني والقومي، أيا يكن مصدره وجنسه، فإن تجاهله يعتبر تفريطا في الحقوق الوطنية وهدرا للكرامة القومية.. ومن هنا تكون الجرأة مطلوبة في إعادة صياغة سلم الأولويات في المواجهة، وأن نتهيأ لتوفير مستلزماتها قبل قوات الأوان، وما لم نضع ذلك في الحسبان فإن أمتنا ستتجه حتما من التجزئة القطرية إلى التفتيب الطائفي.

 

yousifsite2020@gmail.com

 

اضف تعليق

اسمك بريدك الالكتروني

 

تعليقك:

تعليقات

 

* تعليق #1 (ارسل بواسطة هاشم حميد الخالدي)

 

ان الاداره الامريكيه عارفه بطموحات ايران ونظرتها للعرب والعراق سواء في ظل حكم الشاه الذي انتهى ام في ظل حكم خميني الممتد الى الان,الا تلاحظ الاداره الامريكيه بان سيادة حكومه ذات نزعة مذهبيه شيعيه في جنوب ووسط العراق سوف يفتح الباب الى تشكيل حكومات شيعيه في بلدان او اجزاء من بلدان عربيه مجاوره بعد تعريضها لسكين التقسيم فيجعل العرب في حالة انقسام و استقطاب طائفي وصراع وتناحر دائم وبالتالي في حاله بالغه من الضعف والتشرذم بين ممالك سنيه واخرى شيعيه وسوف لن تجني الامبراطوريه الامريكيه الا الخيبه من هذا كله حيث سيكون الاستقطاب ايراني ,اي ان الوضعيه ستكون لمصلحة ايران في تحقيق مشروعها الامبراطوري,وسوف لن تقدر الاداره الامريكيه على مواجهته حتى لو جمعت واستعانت باقطابها السنيه العربيه فهذه ستكون اقطاب ضعيفه وفقيره ..اقطاب لن تتمكن ان تخدم الامريكان في صدامها مع هذا الاستقطاب الايراني حتى لو توحدت الاجزاء العربيه, وسوف تخرج امبراطورية الولايات المتحده الامريكيه مهزومه مدحوره فلا هي منتفعه ولا دويلات العرب الطائفيه التي سوف تنشأ منتفعين فضلا عن عرب ايران المخدوعين الجدد طبعا حيث سيكونوا مستضعفين في ارضهم كما هم العربستان الان, وان المنتفع الوحيد ستكون ايران لذلك ليس من المعقول ان تمضي الولايات المتحده الامريكيه في تقسيم العراق فهذا ليس بمصلحتها على المدى المتوسط والبعيد فهي اذن لا بد لها ان تتوقف عند حدود لا تسمح لان يكون المنتفع الوحيد هو ايران , اللهم الا اذا سلكت سبيل يؤدي هو ايضا الى تفتيت ايران, وها هوذاك موضوع الخلافات مع حزب الديموقراطيين و داخل الاداره الامريكيه ومراهنة بوش مع الذين يعتقد انهم سيكونون عونا له من قوى شيعيه , ولكن على الارجح ان ادارة بوش لا تستطع الان من فتح جبهة اخرى مع ايران في وقت تورطها بالعراق فهي لا بد ان تتجه لسياسه جديده مرحليه لتعيد تنظيم نفسها وهذه السياسه بدء الترويج لها وهي ما يسمى بالاستراتيجيه الجديده التي لم تتوضح معالمها بعد رغم الاعلان المظلل عنها , وهوسياسة ما يسمى بالتقسيم اللين او التقسيم الناعم للعراق بالوقت الحاضر اي ان تدام الفتنه الطائفيه والصراع الطائفي في العراق بين الطائفيين الاسلاميين شيعة وسنه المعتدلين وقياداتهم وتحجيم دور المتطرفين او ضربهم على ان تبقى الولايات المتحده الامريكيه بهيمنتها على الجميع من مواقع تصويب واستهداف ومشاغله بعيده,حيث تبدأ في هذه المرحله عل اضعاف ايران خطوه خطوه, لذلك على القوه الوطنيه الحذر من هذا المخطط المرحلي والعمل على افشاله رغم اني اعتقد..بان ايران ستكون بالمرحله الراهنه اكثر اصرارا على تصعيد الموقف للاسراع بهزيمة الولايات المتحده الامريكيه وقطف الثمار التي اينعت فهل يكفي الحذر …

 

 

 

* تعليق #2 (ارسل بواسطة وتين)

 

نحيه صادقه من قلب عراقي جريح الى كل انسان يحمل ضمير صادق نلطق بلاوجلوتيه الى الكاتب::قرات مقالتك الان واسعدتني الرؤيا الصادقه الصحيحه لمايحدث وللطعن الذي كابدته العائله العراقيه وكلي يقين يااستاذي الفاضلواعلم ان العراقيين بيت واحدمهما تعددت امذاهب والاطياف وان مايحدث من قتل عالى الجنسيه قدطال حتى المسيحينوكنائسهم ولاتفرقه بين العراقين الحقيقين من سني وشيعي ولكن كلك يقين كماذكرت سابقالمصلحة من هذاالاستعمار الذي خلق الطائفيه انطلاقا من مبداء فرق تسد ولي سؤال ياسناذي الفاضل هل ان الدول العربيه ليست جنودمطيعين للاستعماراو بالاحرى ليست مستعمرات واتمنى ايها الاستاذ الفاضل ان تعلو شمس الحق مهما امتدت عصورالظلام ولازلنانذكرتاريخ اجدادناواتمنى ان لم تكونو يدا تداوي الجراح فكونوا على الاقل يدا تمسح دموع الام العراقيه المنكاءه واتمنى ان يكون دعمكم لروحي العراق ولو مجرد دعم معنوي بنطق كلمة الحق ولو ان طريق الحق قليل سالكيه…………..امتناني واحترامي

 

 

* تعليق #3 (ارسل بواسطة جنين يوسف)

 

اعتقد أن عملية التفتيت الطائفي هي أخطر ما واجهته الأمة في تاريخها الحديث من مؤامرات، وأنه ينبغي أن تتحد كل الجهود من أجل إفشالها

 

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

ثلاثة + ستة =


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.

د.يوسف مكي