مرة أخرى لماذا تلح إسرائيل على يهوديتها؟
يعني في أبسط بديهياته نفيا لحق الفلسطينيين في أرضهم. وقد بلغت حالة النفي، حد التنكر للوجود الفلسطيني، كما هو مألوف في الأدبيات الصهيونية.
حالة نفي حق الشعب الفلسطيني في أرضه، استمرت حتى أيامنا هذه. وتختزلها تصريحات ايهود أولمرت وسيبني ليفني التي يعبران فيها عن تعاطفهما مع حلم الفلسطينيين في إقامة كيانهم، على أن لا يكون ذلك على أرض فلسطين، بل في مكان آخر. في إشارة واضحة للأردن، كوطن بديل.
خلال حقبة الاحتلال الصهيوني لفلسطين، منذ عام 1948، لم يتمكن الصهاينة مع إقناع الفلسطينيين والعالم بأسره، بتجاهل القضية الفلسطينية. لقد برزت حقائق جديدة، أصبحت موضع رصد واهتمام الصهاينة. فقد صمد من بقي من الفلسطينيين عام 1948، تحت الاحتلال، واستحال دمجهم ثقافة وهوية بالكيان الصهيوني. ورغم قسوة الظروف التي يعيشونها، تمكنوا من خلق المؤسسات المعبرة عن تطلعاتهم، وبرزت من بنيهم قيادات جديدة، استطاعت أن تنقل للعالم صورا عن معاناة الفلسطينيين في الداخل، وعن الممارسات العنصرية، التي ينتهجها الكيان الصهيوني. وكان تنامي أعداد هؤلاء الفلسطينيين، والذي تجاوز الـ 20% من تعداد سكان الكيان العبري، هو الحقيقة الأمر والأصعب، فقد شكل ذلك هاجسا كبيرا بالنسبة للصهاينة، جعل منها موضوعا أثيرا للمناقشة في مؤتمرات حزب العمل الإسرائيلي في السنوات الأخيرة.
وفي الشتات، تضاعفت أعداد الفلسطينيين، ومن مخيماتهم انطلقت الثورة الفلسطينية المعاصرة, بقيادة حركة فتح. ولا يبدو أن تقادم الزمن، قد تمكن من إيمانهم بقضيتهم أو أضعف جذوة حنينهم وحلمهم في العودة إلى ديارهم.
إن أخشى ما يؤرق قادة الصهاينة، هو الخلل الديمغرافي، الذي تتجه بوصلته بثبات لصالح الفلسطينيين. لقد رأى الصهاينة، ما أدى إليه الخلل في التركيبية السكانية، في إفشال مخططات تذويب هوية السكان الأصليين. حدث ذلك بالجزائر وجنوب أفريقيا، وكانت نتيجته انتصار الثورات الوطنية، وتمكنها من انتزاع الحرية والاستقلال. لقد ثبت للصهاينة أن الثقافة العربية عصية على التذويب، بما يعني استحالة اندماج الفلسطينيين بالمشروع الصهيوني.
وكان شعار “الدولة الفلسطينية المستقلة” قد أتاح مخرجا مقبولا لتحقيق معجزة عبور عبرانية من نوع آخر. فهذه الدولة ستكون المعبر للتسلل الصهيوني لبقية البلدان العربية، بعد تحقيق “السلام”. لكن المتغيرات على الساحة الدولية، التي تزامنت مع قدوم المحافظين الجدد للسلطة في الولايات المتحدة الأمريكية، واستمرار هيمنة اليمين الإسرائيلي على سدة الحكم بالكيان العبري، قد حال دون قيام هذه الدولة. والبديل عن ذلك، هو الاستمرار في بناء المستوطنات الصهيونية، وبناء الجدران العازلة، وشق الطرق السريعة، التي تربط الكيان الغاصب، عبر أراضي الضفة، ومصادرة الأراضي، وتجريف المزارع، وهدم البيوت.
أخطر ما يتضمنه الحديث عن يهودية الدولة، ليس في تسمية إسرائيل بالدولة اليهودية، فذلك من صميم المشروع الصهيوني. وقد قام الكيان العبري على أساسها، لكنه في قبول الفلسطينيين والعرب بذلك. إن جعل هذا الموضوع أحد بنود المفاوضات مع الفلسطينيين ليس عملا اعتباطيا، بل هو في جوهره نفي حق الفلسطينيين البقاء الذين رفضوا الرحيل عن أرضهم في البقاء بديارهم. وجعل هذا المسلك العنصري الإجرامي أمرا معترفا به من قبل العرب والعالم.
سيقال لنا في معرض الرد على اعتراضنا على يهودية إسرائيل، أن منظمة التحرير الفلسطينية، وافقت على وجود كيانين على أرض فلسطين التاريخية: يهودي يخص جميع اليهود، حيثما تواجدوا، والآخر فلسطيني معني بكل الفلسطينيين بالداخل والخارج. وبموجب هذا الفصل التعسفي، يصبح وجود العرب الفلسطينيين، في الأراضي التي تمثل كيان إسرائيل، والإقرار بعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى وطنهم، حق سيادي للدولة العبرية، ومسألة داخلية تخصها، كدولة مستقلة، ولا شأن للعرب أو السلطة الفلسطينية به. وسيذكرنا المهرولون للتطبيع، أن القانون الدولي يجيز لأي دولة مستقلة، سن القوانين والتشريعات على أرضها، دونما تدخل من أي طرف آخر. وبموجب ذلك، تصبح قضية يهودية إسرائيل مسألة داخلية، تخص الإسرائيليين وحدهم، وليس من حق أحد من خارجها التدخل في قرار هكذا. وذلك ما أشارت له عناصر متنفذة في السلطة الفلسطينية. وسيجري تذكيرنا بأن قرار التقسيم الذي صدر عن مجلس الأمن الدولي عام 1947 وافق على قيام دولتين على أرض فلسطين: أحدهما يهودية والأخرى فلسطينية، وإذا فلماذا الاحتجاج وما الجديد في الِأمر.
الواقع أن الجدل العربي المساند للطرح الصهيوني، تجاه التمسك بيهودية الدولة، يغيب جملة من الحقائق الأساسية، ذات العلاقة المباشرة بالصراع العربي- الصهيوني. أولاها أن الذين يتفاوضون مع الكيان الغاصب، يستكملون من خلال هذه المفاوضات، اتفاقية صلح يفترض فيها أن تبنى على تنازلات متبادلة، وأن الاعتراف بالكيان العبري، يتم مقابل اعتراف الكيان الغاصب بالحقوق الفلسطينية، والتسليم بالأمر الواقع، ومن ضمنه الحقوق المشروعة لفلسطينيي 1948، في البقاء بأرضهم، والتمتع الكامل بحقوق المواطنة القانونية والدستورية. وكذلك حق الفلسطينيين في إنجاز حلمهم في الاستقلال وتقرير المصير، وإقامة الدولة المستقلة.
أن تصريحا كالذي أعلنه الأمين العام لجامعة الدول العربية، والذي أشار فيه إلى أنه لا يجد غضاضة في الاعتراف بيهودية إسرائيل، يتناسى أن معظم الدول العربية لا تعترف بالكيان الصهيوني، ولا تقيم معه أي نوع من العلاقات. إن أي تقدم باتجاه التطبيع مع إسرائيل، سيكون تفريطا مضاعفا في الحقوق الفلسطينية، إن لم يضمن حق الفلسطينيين بالبقاء في أرضهم، وأيضا حق من شردوا بالعودة ِإلى ديارهم، وذلك ما تكفله القوانين الدولية والشرائع السماوية.
لن يكون مجديا، في تبرير القبول بيهودية دولة إسرائيل، التعلل بقرار التقسيم، فهذا القرار لم يجر تطبيقه مطلقا. ولو أنه اعتبر أساسا للمفاوضات فإن من حق الفلسطينيين، أن يحصلوا على 50% من أراضي فلسطين التاريخية. وليس من الجائز طرحه بشكل مجتزأ، في سياق تأكيد يهودية الدولة، لتبرير المزيد من التفريط بحقوق الفلسطينيين.
إن العرب الذي تفاوضوا مع الكيان الغاصب، بما فيهم السلطة الفلسطينية، قد قالوا لنا أنهم لا يتفاوضون مع الصهاينة، على بياض. وإنما يتفاوضون من منطلق الحرص على حقوق الفلسطينيين. لكن ما هو متحقق على الأرض، هو اكتساب الصهاينة للمزيد من التنازلات، للمستوى الذي لم يتبق فيه لدى العرب أي شيء يمكن أن يتفاوضوا عليه.
إن منح يهودية إسرائيل الأبعاد القانونية والسياسية، والاعتراف بذلك عربيا، سيقضم كل الحقوق الفلسطينية والعربية، بما في ذلك حق العودة وتقرير المصير، وهي حقوق بقيت مضمونة حتى الساعة، بموجب القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، وخطورة الطرح الجديد، هي في حظوته بدعم من الإدارة الأمريكية، واستهدافه خلق مناخ دولي وإقليمي ملائم، لطرد البقية الباقية من الفلسطينيين، الصامدين من وطنهم.
وسيكون من شأن القبول بذلك، بقاء اللاجئين بمخيماتهم إلى ما لا نهاية. ففلسطين الضفة والقطاع، إذا ما افترضنا جدلا أن الدولة الفلسطينية ستقوم عليها، وهو ما لا يبدو في الأفق، لن يكون بمقدورها استيعاب الفلسطينيين المقيمين بالشتات، وستكتفي دولة السلطة الفلسطينية بتقديم وثائق الهويات وجوازات السفر، وتسهيل اجراءات الترحال لشعب قدره أن يعيش في المنافي، ما لم تتغير معادلة الصراع.
لن يكون الإقرار بيهودية الكيان العبري الغاصب، سوى المقدمة لتطهير عرقي يجعل من “إسرائيل” كيانا يهوديا خالصا، لتتحقق فرادة صهيونية أخرى، تضاف إلى الهولوكست والشعب المختار، وأساطير التاريخ والوعد الإلهي، مجسدة صورة مختلفة للعقيدة الصهيونية، من حيث تفوقها في عنصريتها دون منازع.