مرة أخرى: قراءة في خطة بوش الجديدة في العراق
وابتداء نؤكد ما أشرنا له في حديثنا السابق من أن البنود المعلنة في هذه الخطة ربما لا تكون بالدقة هي الاستراتيجية التي تزمع الإدارة الأمريكية تطبيقها في بلاد الرافدين. وفي هذا السياق نذكر أن أهم بنود خطة بوش قد ركزت على زيادة عدد القوات الأمريكية في العراق بما ينوف على 21000 جندي ليرتفع عددها إلى 153500، بهدف خفض حدة العنف وضمان الأمن لإفساح المجال أمام انسحاب للقوات الأمريكية في مرحلة لاحقة. كما طالبت مبادرة الرئيس بوش من الحكومة العراقية التصدي للميليشيات الشيعية، وإشراك السنة بشكل أكبر في العملية السياسية وأن تتحمل المسؤوليات الأمنية في البلاد بنهاية العام الحالي، وحثت قادة الدول العربية على دعم الحكومة العراقية ومساندة جهودها لتحقيق الاستقرار. وحملت مبادرة بوش نبرات هجومية حادة ضد إيران وسوريا، وطالب بوضع حد لنفوذهما بالمنطقة.
إن القراءة المتأنية لبنود هذه المبادرة، وللتصريحات والتحركات، التي أطلقها، أو قام بها أقطاب الإدارة الأمريكية، والتي أعقبت صدورها تشير إلى أجندات أمريكية أخرى، تسعى الإدارة الأمريكية إلى تطبيقها غير تلك المعلنة. فإذا ما تناولنا كل بند من البنود التي طرحتها المبادرة، كلا على حدة وقمنا بتحليله، وإعادة تركيبه مع البنود الأخرى، ستتكامل لدينا صورة السيناريو الذي تحضر لتنفيذه الإدارة الأمريكية في الأيام القادمة.
فالحديث عن زيادة عدد القوات الأمريكية المتواجدة بالعراق، وهو البند الرئيسي بالمبادرة لا يمكن أن يستهدف تحقيق الأمن والاستقرار في العراق. بمعنى آخر، إن الإدارة الأمريكية تعلم قبل غيرها أن هذه الزيادة لن تؤدي إلى قهر إرادة الشعب العراقي ومقاومته الباسلة للاحتلال الأمريكي. ودليلنا على ذلك، أن القوات الأمريكية التي كانت متواجدة في العراق عقب احتلاله، كانت قد اقتربت من ضعف عدد القوات المتواجدة الآن، وكانت المقاومة تتصدى لتلك القوات في الرمادي والفلوجة وبلد وتكريت وسامراء والمشاهدة وبعقوبة والقائم وتلعفر.. وعدد كبير من المواقع العراقية الأخرى. وقد شهدت المعارك الضارية التي خاضتها المقاومة العراقية مع الأمريكيين قصفا جويا مركزا على المدن، وتهجيرا للسكان، كما حدث لمدينة الرمادي، وإقفالا للطرق، ومحاصرة للمدن، وفرضا لحظر التجوال لأيام طويلة. وكان المقاومون يخرجون من ركام الخراب، وأطلال البيوت المنهارة ليحيلوا الأرض حمما تحرق الغزاة، وتجعل مكوثهم في ما بين النهرين سعيرا لا يطاق. إن إدارة الاحتلال تعلم قبل غيرها أن تكتيكات المقاومة المسلحة، وإدارتها للحرب الشعبية ليست تقابلا عسكريا مباشرا، بين المقاومة والمحتل، بل هو عمل عسكري مخاتل يستهدف تمريغ أنف الاحتلال واستنزاف قواه، حتى آخر قطرة، ليلحق به الهزيمة السياسية ويرغمه على الرحيل.
إذن لا بد أن هناك غاية أخرى من زيادة عدد القوات الأمريكية المتواجدة في العراق. والأكثر احتمالا أن هذه الزيادة لا تكون موجهة للساحة العراقية. إن هذا الإجراء يعيد إلى الذاكرة ما حدث في فيتنام، حين قررت إدارة الرئيس جونسون زيادة عدد القوات الأمريكية في الجنوب لتبلغ اﻠ 500 ألف عسكري. كان المعلن آنذاك أن تلك القوات قد أرسلت لتعزيز التواجد الأمريكي في فيتنام في وجه ثوار فيتكونج، لكن ما لبثت الأمور أن تكشفت في سياسة جديدة تبنتها الإدارة الأمريكية آنذاك، تمثلت في الهروب إلى الأمام، تحت شعار مطاردة الشيوعيين الفيتناميين، وملاحقتهم إلى حيث يلجأون، هاربين من النيران الأمريكية… فكان الاحتلال الأمريكي لكمبوديا ولاوس، والإطاحة بأنظمتهما، لتتفاقم أزمة الاحتلال، وتتأكد هزيمته.
إن مبادرة الرئيس بوش تشير إلى ذلك ضمنيا، من خلال الهجوم الحاد ضد إيران وسوريا، والمطالبة بوضع حد لنفوذهما بالمنطقة، وتأكيد وزير دفاعه روبرت جيتس، أثناء زيارته لدول الخليج والعراق، أن الإيرانيين ذهبوا بعيدا في سياساتهم، وأن ذلك يثير قلقا شديدا حيال نواياهم،، إن الإيرانيين، كما يقول جيتس، عدائيون جدا ويعتبرون الولايات المتحدة في موقف ضعيف بسبب الوضع في العراق، مضيفا أن ذلك الوضع أتاح للإيرانيين فرصة تكتيكية لكن الولايات المتحدة قوية جدا ومتنبهة لمخاطر هذه السياسة.
لكننا نجد في هذا الاعتراف الضمني من قبل الرئيس الأمريكي بوش ووزير دفاعه بالنوايا المخبأة تزويرا فاضحا، وخلطا جليا للأوراق، يثير علامات استفهام وتعجب كبيرة. هل فعلا ستتجه الإدارة الأمريكية إلى وضع حد للنفوذ الإيراني بالعراق، وفي المنطقة، وكيف سيتحقق ذلك؟!
إن المشروع الأمريكي في العراق قد راهن منذ البداية على علاقة تكاملية لتنفيذه مع إيران. تقوم الإدارة الأمريكية بتمويله بدعم قوى حليفة بالوطن العربي وخارجه، وتنفذه عسكريا على الأرض، وتقوم إيران بتزويد المشروع بالموارد البشرية التي تردف عملية الاحتلال منذ أيامه الأولى. وكان لهذه “الموارد البشرية” الدور الأساس في العملية السياسية التي خرجت من رحم الاحتلال، بما في ذلك تشكيل أول حكومة انتقالية، وبناء شرطة وجيش يواليان الاحتلال وينفذان سياساته وبرامجه. وهكذا كان لأنصار إيران من حزب الدعوة والمجلس الأعلى للثورة الإسلامية، منذ الأيام الأولى لاحتلال بغداد، حصة الأسد في تشكيل الحكومة، وأيضا في ضخ عناصرهما للشرطة والجيش، والسماح للميليشيات التابعة لهما بنهب المتاحف والآثار، وتخريب الجامعات والمدارس، وهدم المساجد، وقتل المدنيين، ومصادرة دولة العراق الحديث كيانا وهوية، وتسعير الاحتراب الطائفي في عموم بلاد الرافدين. ليس ذلك فحسب، بل كان للإيرانيين دور مباشر في إدارة العملية السياسية من خلال المرجعيات الدينية وإصدار الفتاوى التي تحرض على الالتحاق بتلك العملية والمشاركة في الانتخابات، وتشجيع الموالين للتصويت على الدستور والنظام الفدرالي اللذين قسما العراق بموجب محاصصات طائفية وإثنية، غيب فيها مفهوم المواطنة، وحقائق التاريخ والمواريث والجغرافيا، والانتماء إلى الأمة.
لقد تغلغل النفوذ الإيراني في كل حلقات المشروع الأمريكي. ولم يكن ذلك التغلغل صدفة أو اعتباطا أو غفلة أمريكية، بل كان عن عمد وسابق إصرار من إدارة الاحتلال. فمن غير ذلك التغلغل لن يكون بإمكان الأمريكيين تفتيت العراق، على أسس ظلامية متخلفة ومعادية للعروبة وللتاريخ العربي الإسلامي. إن القضاء على النفوذ الإيراني في العراق من قبل الأمريكيين، يعني سقوط العمود الفقري في المشروع الأمريكي، ويعني حل الحكومة العراقية الحالية، والشرطة والجيش المعينين والقضاء على الميليشيات التي سهلت للاحتلال تفتيته للدولة العراقية. وعلى هذا الأساس، فإنه ليس له إلا معنى واحد فقط، هو اندحار المشروع الأمريكي وهزيمة الاحتلال، وانتصار إرادة الشعب العراقي، وعودة العراق بلدا عربيا حرا مستقلا، وهو ما لا يعتقد أي عاقل أن ذلك هو ما يستهدفه الأمريكيون.
فإذا ما استبعدنا المواجهة الأمريكية الإيرانية، وهو استبعاد اتضحت أسبابه ومبرراته، فلن يبقى إلا الاحتمال الآخر، الذي أشار له الرئيس بوش ضمنا بخطابه الذي أعلن فيه مبادرته الجديدة، وهو مواجهة سوريا، وذلك هو الأقرب احتمالا. إن الحديث عن احتمال توجيه ضربات إلى سوريا بحجة إيوائها للمقاومين العراقيين، والتساهل معهم في العبور من الحدود السورية إلى العراق قد بدأ قبل أكثر من ثلاثة أعوام. وكلما تصاعد فعل المقاومة على الأرض ارتفعت النبرة العدائية في الحديث عن سوريا، حدث ذلك أثناء الحملة العسكرية الأمريكية على القائم وتلعفر والرمادي، وهددت الإدارة الأمريكية آنذاك باحتلال بعض المحافظات السورية التي تقع قريبا من الحدود الشرقية، كالحسكة والبوكمال ودير الزور. والآن والإدارة الأمريكية تمر بأسوأ مراحلها في العراق، منذ احتلال بغداد، يبدو احتمال العدوان على القطر السوري أقرب من أي وقت مضى، ولا يستبعد أن يكون الهروب الأمريكي إلى الأمام، في هذه المرة، موجها ضد سوريا.
إن هناك جملة من الأسباب تجعلنا نميل كثيرا إلى تصور هذا السيناريو، منها أن سوريا ما زالت خارج عملية التسوية مع الكيان الصهيوني. ويجري الحديث هذه الأيام عن ضرورة التحاقها بركب التسوية، ويبدو التلويح بالعصا، وربما استخدامها إحدى وسائل الضغط لإرغام الإدارة السورية على الإلتحاق في مفاوضات مباشرة مع الصهاينة. إضافة إلى ذلك، فإن الضغط على القيادة السورية ربما يجعلها تتردد في تأييد المقاومة الفلسطينية واللبنانية في المواجهات القادمة، ولعل الإدارة الأمريكية تأمل في إحداث انقلاب عسكري، وقدوم نظام حليف يتماهى مع سياساتها وبرامجها في المنطقة.
بقيت هناك نقاط أخرى مهمة، ذات علاقة مباشرة بخطة بوش الجديدة في العراق، تمنينا لو كان بالإمكان تناولها في هذه السطور، لعلنا نستطيع مناقشتها في أحاديث قادمة بإذن الله تعالى.
cdabcd
yousifsite2020@gmail.com
اضف تعليق
اسمك بريدك الالكتروني
تعليقك:
تعليقات
* تعليق #1 (ارسل بواسطة أم رواء)
الوضع العربي لم يكن سيصل إلى هذا الحال لولا مصيبتنا في قادتنا وحكامنا اللذين أصبح همهم هو كراسيهم ووضع يدهم على كل مقدرات الامة وثرواتها في بنوك أوروبا وأمريكا ولو كان هؤلاء جاءوا إلى السلطة برغبةشعوبهم وإنتخابات ديمقراطية وليس بالرصاص والمدفع لما كان وضعنا المزري هذا إننا أمام فلسطين ثانيه خاصة وأن أكثر من مليوني مواطن عراقي قد نزحوا من العراق والعرب والمسلمين يتفرجون ولست أعرف لماذا ؟ هل يستعدون لانقاذ العراق أم انهم بستعدون للفرار من أوطانهم وتركها للغاصب المحتل ونبقى نحن كشعوب الضحية. اللهم أعنا على مانحن فيه وخلصنا مما نعانيه .