مرة أخرى: الشرق الأوسط مشروع للهيمنة أم للإنعتاق؟!
ابتداء، يمكننا القول أن ما ورد في المقالتين المشار إليهما يمكن اختزاله في ثلاثة محاور: الترويج لمشروع الشرق الأوسط الجديد، وتبرير التدخلات الخارجية في شؤون البلدان الأخرى، والتبشير بالقيم الليبرالية الغربية. إن ما عدا ذلك من حشو ورد في المقالتين جاء في شكل أقنعة يجري التلفع بها من أجل تحقيق توريات بدت مفضوحة منذ البداية، وحتى النهاية. ولذلك فإننا لن نستغرق كثيرا في ملاحقة ومحاكمة الألفاظ والتعابير، خاصة وأن الإفصاحات اللاحقة عن المقاصد المكبوتة قد كفتنا مؤونة الرحلة.
المحور الأول، مشروع الشرق الأوسط الكبير أو الجديد، سوف نحاول تناوله منهجيا، لنكشف تهافت أطروحاته. ولعنا لا نضيف جديدا حين نؤكد أن أحد سمات التعابير الجغرافية هو اكتسابها صفة الثبات النسبي، فهي ليست خاضعة في توصيفاتها وتحديد مفاهيمها للمتغيرات في السياسة الدولية واختلال توازن القوى، صحيح أن السياسات والإستراتيجيات العسكرية تتغير، وتتحرك بسرعة تبعا لتغير المواسم.. وكنتيجة طبيعية للتخلخلات في ميزان القوى العالمي، ولكن الجغرافيا: بحار وأنهار ومضائق وجبال ووديان ومناخ، وثروات وبشر وثقافات ومواريث خاصيتها الثبات النسبي، التحولات فيها بطيئة جدا، غير مدركة في الغالب إلا بالتشريح والتبضيع، وتكاد تكون غير مرئية، يمنحها التقادم والمعايشة قدسية وهوية وانتماء، وتعابير وطنية، يصل الإلتزام بها حد التضحية بالنفس.
الشرق الأوسط الجديد، وفقا لهذا التوصيف، وأيضا لأسباب أخرى سنأتي حالا على ذكرها، ليس توصيف جغرافي، وإنما هو توصيف لاستراتيجيات عسكرية، دخلت قاموسنا السياسي، بقوة منذ مطلع الخمسينيات. وكان هذا التوصيف قد ورد في المعجم السياسي للإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس. حاله حال مفردات أخرى، أريد لها من قبل المستعمر أن تشكل جغرافيا جديدة لمنطقتنا، كشرق السويس، ودرة التاج البريطاني، والساحل المتصالح..
ولأن الأرض كروية، وقد شاءت حقائق الصراع الدولي، في مرحلة تاريخية محددة، أن تكون لندن عاصمة بريطانيا هي عاصمة الكرة الأرضية، وأن يكون توقيت ساعتها “غرينتش” المنصوبة في قلب المدينة، هو التوقيت الدولي لعموم البشرية، فإن موقعي الشرق والغرب يتحددان على ضوء موقع عاصمة العواصم. وهكذا تحدد الشرق الأدنى والأوسط والأقصى تبعا لموقعه من مدينة المدن. إذن فالتعبير عنصري ومتحيز ابتداء، لأنه يعتبرنا مجرد أطراف نائية في معادلة الهيمنة والقوة. ورفض الإستعمار وملحقاته، من قبلنا، يعني في أبسط أبجدياته رفضا لكل تركته.. بما في ذلك رفض سياسة التجهيل والترويع والتضليل والخداع.
الشرق الأوسط، إذن ليس جغرافيا، ولكنه أحد المسميات لاستراتيجية الهيمنة على منطقتنا. وهو كما تم استخدامه من قبل مروجيه، يتضمن حدودا جغرافية فضفاضة، قابلة للإنكماش والتمدد، وينضح توصيفه بعدم دقته. فالإشارة إلى الشرق الأوسط الكبير بحد ذاتها تحمل بديهية أن هناك أكثر من شرق أوسط، وإلا لما كانت هناك حاجة لتحديد صفة “الكبير”، إنها تعنى أن هناك شرق أوسط من النوع صغير الحجم، وآخر ربما من نوع متوسط الحجم، وآخر أراده صناع السياسة الأمريكية أو الغربية أن يكون كبيرا. وتوصيف الجديد، يتضمن معنى بوجود شرق أوسط قديم، تماما كما قال رامسفيلد بوجود أوروبا قديمة وأخرى جديدة.
إن الذي يمنح المفهوم الجغرافي مشروعيته، من وجهة نظر صناع السياسة الدولية، هو مدى مواءمته لاستراتيجية الهيمنة، وتبعا لهذه الإستراتيجية يتمدد وينكمش. إنه إذن، بمنطق الأشياء، حزام استراتيجي وعسكري أمريكي جديد يضيق ويتسع تبعا لإرادة وقدرة صانعي سياسات الهيمنة.
وإذا كان علينا أن نتعلم من الذاكرة التاريخية، باعتبارها معلما أكبر، فقد كان هناك مشروع آخر، مماثل قاده رئيس أمريكي آخر في بداية الخمسينيات، هو أيدوايت أيزنهاور حمل ذات الإسم.. مشروع الشرق الأوسط. وهو مشروع شاء صانعوه أن يكون برنامجا لملأ الفراغ الناتج عن هزيمة الإستعمار التقليدي نتيجة للضربات المتلاحقة الماحقة التي أوقعتها الحركات الوطنية في آسيا وأفريقيا، وبضمنها وطننا العربي بالإستعمار التقليدي. وكان سقوط حكومة عدنان مندريس في تركيا، وموقف عدد من القيادات العربية المناوئ لسياسة الأحلاف والقواعد العسكرية قد أودى بمشروع أيزنهاور للشرق الأوسط وملأ الفراغ, وعلى أنقاض ذلك المشروع، جرت محاولة صياغة حلف جديد عرف بحلف بغداد، وقفت في وجهه عواصم عربية رئيسية في الرياض والقاهرة ودمشق، وقبر في صبيحة 14 يوليو/ تموز عام 1958، عندما قام انقلاب عسكري أعلن خروج العراق من الحلف، وطرد البريطانيين من قاعدتي الحبانية غرب بغداد والشعيبة في مدينة البصرة.
إثر نهاية الحرب العالمية الثانية، اجتمع زعماء عرب في أنشاص وقرروا تأسيس جامعة للدول العربية، عبرت عن انتماء العرب إلى أمة وتاريخ وجغراقيا ولغة وآمال مشتركة. وكانت المشاريع الإستعمارية في جملتها تحاول الحد من تحقيق أي تضامن عربي يؤدي إلى خروج أبناء هذه المنطقة من نفق التجزئة إلى مشاريع نهضوية ووحدوية أرحب. وكانت مواجهة المشروع القومي المعضد بحقائق الجغرافيا والتاريخ، تتم بمشاريع واستراتيجيات أخرى، تتم أحيانا تحت شعار مواجهة الخطر الشيوعي، وأحيانا الخطر الشمولي أو المحافظ. وفي زحمة الضعف والحوصان، أقيم كيان عنصري غريب ومشوه في القلب من الأرض العربية، وفرض على الأمة أن تخوض حربا غير متكافئة انتهت بنكبة فلسطين عام 1948.
وكانت شروط التوقيع على الإستسلام واضحة وجلية… استبدال المشروع الوطني القومي الذي تبناه القادة العرب في مؤتمر أنشاص، بمعاهدات وأحلاف عسكرية مشبوهة مع القوى التي كان لها الدور الأساس في قيام الكيان الغاصب، وتشريد شعب فلسطين. وكانت تلك المشاريع، ولا زالت حتى هذه اللحظة في جملتها تواطؤا استعماريا في الغالب، ومحليا في بعض الأحيان على التاريخ والجغرافيا، وعلى جملة المنجزات القومية التي تحققت خلال الستين عاما المنصرمة، والتي مثلها نشوء جامعة الدول العربية، وميثاقها، وبرتوكولاتها، بما في ذلك اتفاقيات التكامل الإقتصادي، ومعاهدة الدفاع العربي المشترك.
سرعت حوادث 11 سبتمبر عام 2001م، في نيويورك وواشنطن من الهجمة الغربية على المشروع الوطني القومي، تحت يافطة مكافحة الإرهاب، وفرض الديمقراطية والتمدين على شعوب أبناء هذه المنطقة.. وكانت الشعارات الجديدة مقدمة لمقايضات بدأت منذ منتصف السبعينيات حين دخلنا في نفق التسوية، وجرى التوقيع على معاهدات مهينة في كامب ديفيد ووادي عربة وأوسلو، تنكرت للدماء الزكية التي سالت دفاعا عن الحقوق العربية، كما تنكرت لحقوق أربعة ملايين لاجيء فلسطيني لا يزالون يعيشون في الشتات، وتنكرت أيضا لحق جميع المسلمين والمسيحيين في قدس الأقداس. والمطلوب الآن بوضوح ودون مواربة هو استبدال المشروع الوطني القومي، وجامعة الدول العربية بمشروع إقليمي آخر، قوته الضاربة وعماده الكيان الغاصب “إسرائيل”، وعلى أولئك الذين يطمحون بالتمدين والديمقراطية أن يراجعوا قدراتهم العقلية، فالمقايضة لن تكون على حساب المشروع الوطني والقومي، فحسب بل ستكون أيضا على حساب التمدين والديموقراطية، والتطلعات الإنسانية المشروعة في الحرية وحق تقرير المصير..
وسوف تكون لنا محطات أخرى مع هذا المحور وبقية المحاور، بإذن الله.
cdabcd
yousifsite2020@gmail.com