مرة أخرى: الثورات العربية والعمل القومي

0 385

أشرنا في حديثنا السابق، الذي نشر تحت عنوان: الثورات العربية ومستقبل العمل القومي العربي، إلى أن سلسلة الثورات التي حدثت مؤخرا، في عدد من الأقطار العربية تبنت مطالب براجماتية، ونأت عن الطرح الأيديولوجي والشعارات القومية والوطنية. لقد غابت في هذه الثورات الدعوات لانتهاج سياسات تنموية مستقلة بعيدة عن التبعية للخارج، ولم يرفع شعار تحرير فلسطين من المحتل الصهيوني.

 

تركز اهتمامنا على الأسباب التي أدت لغياب الشعارات والمبادئ القومية في التظاهرات المليونية الصاخبة التي شهدها ميدان التحرير في القاهرة، والميادين الأخرى، التي شهدت اعتصام الثوار. وقد كان السؤال، ولا يزال، عن تأثير التحولات الدراماتيكية، التي عمت أجزاء واسعة من الوطن العربي، على مستقبل العمل القومي العربي، بشكل عام، والصراع مع الصهاينة، بشكل خاصة؟.

هل تكون الإجابة شافية وافية، حين نكتفي بالقول أن هذه التحولات قد جاءت استجابة لنداء الداخل، وردا على استفحال ظاهرة المحسوبية والفساد والاستبداد والسطو على الأراضي والممتلكات، وغياب الحريات، وعدم التمييز بين المال العام والخاص، وتغييب حقوق الناس، وانعدام العدالة الاجتماعية، ووصول حالة التنمية في معظم البلدان العربية إلى طريق مسدود؟. ستصدمنا في هذه الحالة حقيقة أخرى جوهرية، هي أن هذه الثورات في حد ذاتها نتاج تفاعل خلاق بين الوطني والقومي، وأنه ربما لن يقدر لها أن تتوسع لتعم أجزاء كبيرة من الوطن العربي، لو لم تتمكن الثورة التونسية من إجبار الرئيس بن علي على التنحي والرحيل، وما كان لها أن تتسع بسرعة البرق، لولا الأداء الملحمي العاصف والفريد للثورة المصرية.

صحيح أن معظم الحركات السياسية العربية، الموالية والمعارضة، قد وقفت طيلة الأربعة عقود الأخيرة خارج التاريخ، ولم تتمكن من المضي قدما باتجاه تحقيق أهدافها واستراتيجياتها، وأن اليافعين قد مثلوا بصدق نبض الحركة التاريخية، لكن ذلك لا يكفي لتبرير نأي الحركات الشبابية عن شعارات العروبة والقومية. فتكلس النخب السياسية القديمة، وشيخوختها وعجزها عن حمل راية الكفاح الوطني، رغم أنه أمر واقع ومعترف به، لكنه لا يكفي لتبرير عدم اقتناص الحركة الشبابية لجدل العلاقة بين القومي والوطني، لمعالجة المشكلات القطرية. ربما يكمن عدم قدرة الحركات الشبابية على وعي العلاقة بين القومي والوطني، هو أن هذه الحركات لم تمتلك في الأساس، مشروعا سياسيا. وأن جل اهتمامها كان في إسقاط النظام، دون رؤية واضحة لما ينبغي عمله بعد ذلك على الصعيدين، المحلي والقومي. إن غياب المشروع السياسي لدى ثورات الشباب هو الذي مكن المعارضات السياسية التقليدية، من أخوان مسلمين ووفديين ومن أتباع الأحزاب الحاكمة، من اختطاف هذه الثورات وتوجيه بوصلتها، وتجيير نتائجها لصالح مشاريعها الخاصة.

لقد شغل الجميع بالثورات العربية وهي تتداعى الواحدة بعد الأخرى، وفرحنا بكرنفالات التغيير. وفي غمرة الابتهاج غابت الأسئلة، عن مستقبل هذه الثورات وعن غياب المشاريع السياسية لهذه الثورات. وربما ذهب بعضنا حد التصور، أن هذا الغياب هو موقف إيجابي محمود، بعد أن رأينا بأم أعيننا كيف أوصلت الحركات السياسية التقليدية التي قادت مشاريع النهضة العربية أمتنا إلى طرق مسدودة، حيث فشلنا في معالجة معظم قضايانا الملحة، بما في ذلك مشاريع التنمية ومواجهة المشروع الاستيطاني الصهيوني، وأنه قد حان الوقت ليمسك الجيل الجديد بزمام مقاديره.

لقد فشلت مشاريع التنمية، ومعها فشل مشروع العدل الاجتماعي، واتسعت الفروقات بين الغنى والفقر. وسادت في معظم البلدان العربية أنظمة مستبدة، مارست قمع الحريات، وكممت الأفواه، وحاربت الاجتهاد والإبداع. ولم يكن دورها في مواجهة التحديات الخارجية، بأفضل من معالجتها لأوضاعها الداخلية.

ساد شعور إيجابي عام لدى المواطن العربي، بأنه لو لم يكن لثورات الشباب سوى تحريك المياه الراكدة، في الواقع العربي لكفاها ذلك. لكن تطور الأحداث، فيما بعد أفرز جملة من الحقائق، التي تجعل من المهم والضروري إعادة قراءة وتقييم ما جرى، من أحداث لا تزال تتداعى بقوة، في بقاع كثيرة من البلدان العربية، حتى هذه اللحظة، بروح نقدية.

أولى هذه الحقائق، هي الحديث عن دور مواقع التواصل الاجتماعي، فيس بوك وتويتر ويوتيوب. هل فعلا يزجي لهذه المواقع معظم التحولات التاريخية التي حدثت في بلداننا العربية في الثلاثة أشهر الأخيرة؟. إن التسليم بذلك، من وجهة نظرنا، هو تسطيح بالغ الخطورة لفعل التاريخ. فالثورات الإنسانية، سابقة على منجزات ثورة الاتصالات. والتجربة التاريخية، تؤكد أن الفعل الإنساني، هو نتاج عمل تراكمي وجدلي، لا يسير وفق آلية أو تراتيبية معينة. بمعنى استحالة استعارة أية تجربة إنسانية فوارة، وإعادة تكرارها مرة أخرى، في موقع آخر، وضمن بيئة مختلفة، حتى وإن بدت مشابهة، فليس للتاريخ أن يعاود خطاه بذات الآلية والتراتبية.

المؤكد أن ثورات الشباب، اتخذت منحى براجماتيا بامتياز، حيث غابت المواقف والشعارات الأيديولوجية، ولم تطرح أي برامج سياسية، ويعود ذلك بشكل رئيسي، لغياب التجربة التاريخية لهؤلاء الشباب. وأنهم بقوا أسرى لسرعة تداعي الأحداث من حولهم.

كانت النتيجة أن الذين تفاوضوا مع السلطات الانتقالية وحصدوا نتائج ما حدث هم قوى سياسية واضحة المعالم. طرح بعضها برامجه وأفكاره السياسية منذ أكثر من ثمانية عقود. وكان لهم حصة الأسد في نتائج التصويت على التعديلات الدستورية في مصر. وهم لا يترددون عن إقامة التحالفات مع الحزب الوطني، الذي حكم مصر في الثلاثة عقود الأخيرة. وقد أقاموا تحالفات مماثلة في الأربعينيات من القرن المنصرم، مع حكومة إسماعيل صدقي ضد التيار الليبرالي الذي مثله آنذاك حزب الوفد، ومع الملك فاروق في مصر، ونظام الرئيس عبد الناصر، بعد الثورة مباشرة. وبالمثل تحركوا في تونس باسم حركة النهضة. ويحاولون الآن أن يحصدوا نتائج الثورة التونسية، بالقفز إلى مقدمة الهيئات الصانعة للقرار السياسي في هذا البلد الشقيق.

في ليبيا، كما هو الحال في مصر وتونس، لم يعد الماسكون بزمام الأمور هم الشباب الذين أشعلوا جذوة الثورة، ولكنهم جبهة الإنقاذ وحزب العدالة الليبي ومجموعات منشقة عن العقيد. وقد كان لمعظم هؤلاء ارتباطات واضحة بالخارج، وبعضهم عمل مستشارا في منظمات غربية، بضمنها محكمة الجنايات الدولية، وقد مكنهم ذلك من التنسيق والتعاون مع ما يعرف الآن بالتحالف الدولي، لضرب كتائب العقيد.

وتقوم ذات القوى الآن، تحت شعار الإصلاح والثورة بمحاولة القفز إلى مواقع السلطة في الأردن وسوريا. أما اليمن فخارطة القوى السياسية وولاءاتها الإقليمية والدولية معروفة للجميع، ولا ضرورة للحديث بالتفصيل عنها. وليس سرا ضلوع الإدارة الأمريكية في مباحثات ووساطة بين الثوار ونظام الرئيس اليمني علي عبدالله الصالح، لتأمين الانتقال السلمي للسلطة.

تأتي عواصف التغيير، بشكل مفاجئ، وسط غياب غير ما هو مألوف، للهتافات الصاخبة التي اعتاد عليها الشارع العربي، الداعية بالموت لأمريكا وإسرائيل. والغريب، أن هذه الظاهرة أصبحت هي القاعدة، ولم تشذ عنها أية ثورة من الثورات العربية الأخيرة، حتى ضمن البلدان التي تقع على حدود التماس مع الكيان الغاصب، في وقت لا يزال الجيش الإسرائيلي يمارس سطوته وعربدته على أهلنا في الضفة الغربية وقطاع غزة، ويهدد بحرب لا تبقي ولا تذر في لبنان.

ولأن المشروع النهضوي العربي، والتنمية والعدالة وتحقيق التكامل الاقتصادي وبناء الدولة العربية المعاصرة، ومواجهة الكيان الصهيوني الغاصب، هي قضايا وجود، فلن يطول بنا المقام ليعود لها ألقها وسابق حضورها، وليس علينا سوى الانتظار.


اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

8 + 3 =


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.

د.يوسف مكي