مرة أخرى: أسئلة حول ارتفاع أسعار النفط
قدمنا لهذا الحديث في الأسبوع الماضي بسؤال مركزي عما إذا كان الارتفاع الحالي في أسعار النفط قد جاء متجانسا مع النظرية الاقتصادية الكلاسيكية المعروفة بقانون العرض والطلب. وانتهينا بنتيجة مؤداها أن تجارب العقود الثلاثة الماضية، فيما يتعلق بصعود أسعار النفط وهبوطها لم تكن مرتبطة بحاجة السوق فحسب، بل إنها في حالات كثيرة مرتبطة بقرارات سياسية، يفرضها المستهلك واللاعب الرئيسي المتفرد في السياسة الدولية، الولايات المتحدة الأمريكية. وقد وعدنا بالولوج مباشرة، في هذا الحديث، بمناقشة الأسباب الحقيقية لارتفاع أسعار النفط. فما هي، من وجهة نظرنا، هذه الأسباب؟
لعل إلقاء نظرة يسيرة، على الأسباب المعلنة للارتفاع الحالي المفاجئ في أسعار النفط، وتسليط الضوء عليها، سيكشف عما يختفي خلفها من أسرار، وأسباب حقيقية غير معلنة عن ارتفاع الأسعار. فقد قيل في تعليل ذلك أن حاجة الصين من النفط تزايدت إلى ما يربو على الـ 20%، بفعل النمو السريع في اقتصادها، ويتوقع أن يستمر الاقتصاد الصيني في النمو بمعدلات سريعة خلال الأعوام القادمة. وقيل أيضا، أن الطلب تضاعف في الولايات المتحدة على النفط، بعد تعافي اقتصاد البلاد، وأن هناك حاجة إلى نفط يمكن تكريره واستخراج البنزين منه من أجل سيارات الدفع الرباعي، الواسعة الانتشار في الولايات المتحدة. وأضيف إلى ذلك سبب آخر له علاقة بشركات النفط. فهذه الشركات، حاولت في السنوات الأخيرة، أن تصبح أكثر فاعلية، وأن تعمل بأقل مخزون من النفط الخام. ويعني هذا عدم وجود فائض في السوق، يغطي المشكلات الطارئة مثل الإضرابات أو نقص الإنتاج بسبب عمليات إرهابية. كما أن أحداثا مثل العنف في منطقة الشرق الأوسط، والتوترات العرقية في نيجيريا، والإضرابات في فنزويلا، قد أثرت بشكل كبير على الأسعار خلال العام الماضي. وقيل أيضا، أن النفط أصبح هو الآخر سلعة قابلة للمضاربات، وأن سر صعود أسعاره، هو احتكار بعض الشركات لكميات كبيرة منه، بهدف رفع سعره في السوق.
وبمراجعة لمعظم الأسباب المعلنة يمكن القول أن المستفيد من الزيادة في أسعار النفط، واللاعب في معظم الأسباب المذكورة هو طرف واحد. فإذا أخذنا على سبيل المثال، موضوع النمو الاقتصادي في الصين، وهو حقيقة لا مراء فيها، فإن هناك أسئلة أخرى ستلقي بثقلها على هذه المناقشة، وتعزز من وجاهة طرح السؤال. أولى هذه الأسئلة هل أن الكميات المنتجة من النفط هذا العام هي ذات الكمية التي أنتجت في العام الماضي، أم أن زيادة حقيقية، وبنسبة تجاوزت الـ 20%، وهي النسبة التي تمثل زيادة الطلب الصيني قد تحققت فعلا في السوق. إن هذا يقتضي منا متابعة ليس فقط لإنتاج منظمة الأوبك والدول الأخرى غير المنضوية في هذه المنظمة، بل أيضا معرفة أولية بالكميات الهائلة التي تضخ في السوق النفطية السوداء.
من جانب آخر، يصدمنا سؤال مهم هو من هي الجهة التي من مصلحتها إيقاف زحف النمو الاقتصادي الصيني والحد منه، والتي بإمكانها فعليا أن تفرض ذلك متى ما وجدته يصب في مصلحتها. أعود هنا للتذكير بقرار حظر النفط الذي اتخذته الدول المنتجة بعد حرب أكتوبر، عام 1973، وكيف تمكنت الولايات المتحدة من تدوير المبالغ التي حصلت عليها الدول المنتجة، وأعادتها إلى خزائنها، وكيف خدم ذلك السياسة الاقتصادية الأمريكية، وساهم بالحد من النمو الاقتصادي في ألمانيا واليابان، حسب تقييمات لديفيد روكفلر وهنري كيسنجر في تلك الفترة، وكلاهما من الصقور الضالعة في رسم السياسات النفطية والاقتصادية للولايات المتحدة. إن السجل الأمريكي السابق، والمعرفة الواعية بالنهج الاحتكاري الأمريكي، تجبرنا على أن نضع هذه الفرضية في سلم حساباتنا. فليست هناك قوة اقتصادية عالمية أخرى، غير الغول الأمريكي، لديه القدرة على فرض ذلك، بحكم تحالفاته وعلاقاته المباشرة بالشركات النفطية، وسيطرته التي تكاد تقترب من الإطلاق على صناعة القرار السياسي الدولي، وأيضا بحكم أن من يقف الآن على قمة صناعة القرار فيه هم ملاك ومندوبو وممثلو الشركات النفطية الكبرى، من بوش إلى تشيني ورامسفيلد وبيرل ورايس. وإذا ما أخذنا التطورات الأخرى على الساحة الدولية، في العراق وأفغانستان والسودان وفنزويلا وعلاقة اللاعب الرئيسي الدولي بها فإن استنتاجاتنا هذه ستصبح منطقية لدرجة اليقين.
هناك حديث عن تعافي الاقتصاد الأمريكي في الأيام الأخيرة، وحاجة سيارات الدفع الرباعي المنتشرة في الولايات المتحدة لمزيد من النفط. وفي هذا الصدد سنواجه بملاحظتين رئيسيتين جديرتين بإثارة الانتباه. أولاهما أن هذا الاقتصاد كان أكثر عافية في الثماني سنوات من عهد الرئيس، بيل كلينتون، وهو العهد الذي استمر ثماني سنوات، وشهد انهيارا حقيقيا في أسعار النفط، ولم ينقذ هذه الأسعار النمو الواضح للاقتصاد الأمريكي في تلك الحقبة من الانهيار. والثانية، أننا الآن في فصل الصيف، وهو موسم يفترض أن ينخفض فيه استخدام النفط، وحتى استهلاك السيارات ذات الدفع الرباعي يكون أقل في فصل الصيف منه في فصل الشتاء. إنها رغم اتساع استخدامها فإنها لا تبدو عملية إلا في المناطق التي تغطيها الثلوج بالشتاء. ويبدو أن الحديث عن تعافي الاقتصاد الأمريكي يحمل في طياته دعاية انتخابية للرئيس الأمريكي، جورج بوش. إن الحديث عن أسباب الزيادة يجب أن لا يكون انتقائيا، ويجب أن يضع في حسبانه كل الاعتبارات. وحين يشار إلى سبب ما، كزيادة في النمو أو تعاف في الاقتصاد فينبغي مقارنته بظروف وحوادث مماثلة لكي يتسق التحليل ويكون أكثر موضوعية. وفي هذا الصدد نذكر بأن الحقبة الماضية، التي شهدت انهيار السوق النفطي كانت أحد أبرز معالمها تعافي الاقتصاد الأمريكي ونمو كبير في معدلات الإنتاج بألمانيا واليابان. وكان المقابل لذلك، هو انخفاض في الإنتاج وانخفاض في الأسعار.
لن نتحدث عن العنف في الشرق الأوسط، وبشكل خاص في العراق وفلسطين. ولن نسمح لأحد بتوجيه تهمة استخدام نظرية المؤامرة بحق تحليلنا، فالعراق أصبح محتلا حقيقة وواقعا من قبل الأمريكيين. والإدارة الأمريكية هي المسئولة أولا وأخيرا عن حالة عدم الاستقرار في هذا البلد العربي الشقيق. أما فلسطين، فيكفي الإشارة، ونحن الآن في موسم الحملة الانتخابية الرئاسية الأمريكية، إلى أن كلا المرشحين، بوش عن الحزب الجمهوري، وجون كيري عن الديمقراطيين، يتباريان في من هو الأكثر ولاء للوبي الصهيوني، ويقدمان عروضا جديدة بمزيد من الهدر للحقوق الفلسطينية، وامتهان واستخفاف بالكرامة العربية، ولا يتورعان عن التنازل بكامل الضفة الغربية للكيان الصهيوني، وينفضان أيديهما من العهود والمواثيق، التي هي في الأصل مشاريعهم وعهودهم، وفي المقدمة منها خارطة الطريق.
ولن نأتي بجديد حين نشير إلى التدخلات الأمريكية المباشرة في السياسات النفطية لفنزويلا. فقد حدث انقلاب أمريكي عسكري معلن بهدف الإطاحة بالرئيس الشرعي للبلاد، ساهم في إفشاله دفاع الشعب الفنزويلي عن السياسة المستقلة لبلاده. وجاءت الانتخابات الأخيرة لتؤكد من جديد حقيقتين مهمتين. الأولى أن الولايات المتحدة سوف تستمر في عدائها لأي سياسة مستقلة في أمريكا اللاتينية، والثانية هي صراع الإرادات بين مشاريع الهيمنة وبين تطلع الشعوب واستبسالها في الدفاع عن الحرية والإنعتاق.
أما أن النفط، أصبح سلعة قابلة للمضاربات، وأن سر صعود أسعاره هو احتكار بعض الشركات لكميات كبيرة منه، بهدف رفع سعره في السوق، فلعل ذلك هو العنصر الأكثر صحة في كل ما نشر من الأسباب، ومرة أخرى، فإن البارع في عملية المضاربات سيكون هو الأكفأ في هذه المعادلة، وهو الذي سيستحوذ على المكاسب والمنافع، ولن يجادل أحد حين نقول إن هذا اللاعب، هو ذاته اللاعب الرئيسي، وربما الوحيد إذا استثنينا قوى الممانعة، في مجمل معادلة الصراع على الساحة الدولية.
ما هي إذن مصلحة هذا اللاعب في اختيار هذا الوقت بالذات لتفجير الأزمة؟. لعلي أشير إلى أسباب رئيسية ثلاثة: الأول هو معاقبة أوروبا “القديمة” حسب وصف وزير الدفاع الأمريكي، دونالد رامسفيلد، وتضم قائمة الدول التي وقفت ضد السياسة الأمريكية في الحرب على العراق، وفي المقدمة منها ألمانيا وفرنسا وبلجيكا، وجميعها دول غير نفطية، وتستورد كميات هائلة منه لمواجهة متطلباتها وتشغيل صناعاتها. والثاني: هو محاولة تحسين الوضع الاقتصادي الأمريكي بشكل فوري، لتجنب أسباب الفشل التي حرمت الرئيس الأمريكي، بوش الأب من دورة رئاسية ثانية. وفي هذا الاتجاه، سوف يصار إلى إعادة تشغيل الآبار النفطية المجمدة، ذات الكلفة الإنتاجية العالية في تكساس وألاسكا وربما كولورادو. إن سعر خمسين دولارا يستحق أن تشغل من أجله تلك الآبار حتى وإن كانت الكلفة عالية. أما السبب الثالث، فيكمن في الحاجة إلى المزيد من أموال النفط العراقي، عن طريق زيادة الإنتاج ورفع السعر، ذلك هو الآخر سوف يؤدي إلى تنشيط الإقتصاد الأمريكي، من خلال مشاريع ما يدعى بإعادة الإعمار، ويعتقد بعض الخبراء الإستراتيجيين الأمريكيين أنه ربما يؤدي أيضا إلى إضعاف المقاومة العراقية، وتحقيق شيء من الاستقرار، بما يمكن الإدارة الأمريكية من مواصلة سياساتها العدوانية، في وضع أكثر استرخاء.
ويبقى أن نؤكد أن هذه الأسباب بحاجة إلى مزيد من المناقشة، وتسليط ضوء أكبر عليها. لعل الفرصة تسنح بذلك في أحاديث قادمة بإذن الله.
ــــــــــــــــــ
yousifsite2020@gmail.com
د. يوسف مكي
تاريخ الماده:- 2004-09-01