محكمة العدل الدولية والحرب على غزة

2

​​​​​​​د. يوسف مكي
على ضوء حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل، منذ السابع من اكتوبر/ تشرين الاول من العام الماضي، والتي ذهب ضحيتها حتى اللحظة قرابة تسعة وعشرين ألفا من الفلسطينيين، غالبتهم من المدنيين العزل، ومن ضمنهم آلاف الاطفال، وأكثر من تسعين ألف جريح، عدى عدد كبير من المفقودين، تقدمت حكومة جنوب أفريقيا، بدعوى إلى محكمة العدل الدولية، التي تتخذ من لاهاي، في هولندا مقرا رئيسيا لها، مطالبة، بوضع حد للحرب على غزة، ومحاسبة مرتكبي جرائم الإبادة بحق المدنيين، باعتبارها ترقى لمستوى جرائم الحرب، التي يعاقب عليها القانون الدولي.
وما يعطي دعوة جنوب افريقيا أهمية بالغة هو أنها قدمت للجهة المنوط بها الفصل بالمنازعات الدولية. فمحكمة العدل الدولية هي جهاز قضائي رئيسي تابع لهيئة الأمم المتحدة، تتولى الفصل طبقا لأحكام القانون الدولي، في المنازعات القانونية التي تنشأ بين الدول. ومن ضمن مهماتها تقديم آراء استشارية، بشأن المسائل القانونية، التي قد تحيلها إليها، أجهزة الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة. والمحكمة وفقا للعرف المعتاد، لا توجه الاتهام المباشر لأشخاص بعينهم، ولكن للحكومات والانظمة السياسية، وهي على هذا الأساس، ليست هيئة تنفيذية، ولذلك تلجأ في حالة عدم التزام الفرقاء المتخاصمين بقراراتها، إلى محكمة الجنايات الدولية.
محكمة الجنايات الدولية هي التي تتولى تحديد المسؤلين عن ارتكاب جرائم بحق الانسانية بعينهم وأسمائهم، وهي الجهة المنوط بها تحديد نوعية العقوبات التي تفرض على مرتكبي الجرائم.
لكن هذا الكلام ينبغي أن لا يؤخد به على علاته. أن قرارات محكمة العدل الدولية، تكون قابلة للتنفيذ حين يقبل بها الكبار، نعني تحديدا الاعضاء الدائمين في مجلس الأمن، كما حدث في أزمة كوسفو. أما حين يختلف الكبار فيما بينهم على قضية ما فإن قرارات المحكمة الدولية تظل اعتبارية وغير قابلة للتنفيذ.
في العملية العسكرية الخاصة التي اطلقتها روسيا الاتحادية ضد جمهورية أوكرانيا، أصدرت محكمة الجنايات الدولية عدة قرارات تدين التدخل الروسي، وبعض هذه القرارات يبلغ حد السخرية، حيث صدر قرار محكمة العدل الجنائية الدولية بالقاء القبض على الرئيس الروسي فلادمير بوتن. وبالتأكيد فإن الذين أطلقوا هذا القرار يعلمون سلفا باستحالة تنفيذه.
تعيدنا هذه المقدمة إلى الموضوع الرئيسي، موضوع الشكوى التي تقدمت بها جنوب أفريقيا للمحكمة الدولية ضد حملات الإبادة الاسرائيلية بحق سكان غزه. فمع عدم التقليل من الأهمية الاخلاقية النبيلة لموقف جنوب افريقيا، وأيضا مع التسليم بالجوانب الاعتبارية لهذا الموقف، كونه يكشف للعالم باسره مستوى الجرائم التي ارتكبها الاسرائيليون بحق الفلسطينيين، فإن فاعلية هذا الموقف لا تتعدى على الصعيد العملي الجوانب الاعتبارية.
إن اسرائيل ترتكب جرائمها في غزه على مرأى ومسمع العالم باسره، وقنابلها التي تقدف بها الطائرات من الجو لا تميز بين هدف مدني اوعسكري. وهي تقوم بذلك كله معتمدة على دعم أميريكي غير محدود، يشاطره فيه للاسف معظم حلفائها الأوربيين، وعلى رأسهم الحكومة البريطانية.
إن السبيل الوحيد الممكن والمتاح للفلسطينين لوقف الحرب على غزه هو اللجوء لهيئة الأمم المتحدة. وهنا ينبغي التمييز بين هيئتين رئيسيتين في هذه المنظمة الدولية: مجلس الأمن الدولي والجمعية العامة للأمم المتحدة. وفي مجلس الأمن الدولي سيواجه أي قرار أممي يدعو لوقف الحرب بالفيتو الأميريكي وقد حدث ذلك عدة مرات خلال هذه الأزمة. إن ذلك يعني أن الملجأ الأممي الوحيد لمناقشة مبادرة جنوب افريقا وقرارات المحكمة الدولية هي الجمعية العامة للأمم المتحدة، التي سيكون قرارها في النهاية لصالح الفلسطينين بحكم غلبة عضوية دول العالم الثالث في هذه الجمعية. لكن قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة على أية حال ليست ملزمة لمجلس الأمن الدولي.
إن الحل المتبقي والممكن لوقف الحرب هو استمرار الضغط الشعبي الدولي المطالب بوقف الحرب وبشكل خاص في الدول المساندة للعدوان. إن ذلك يفرض على جميع القوى المحبة للسلام في العالم مواصلة جهودها كل من موقعه لوقف الحرب.
إن تصليب الكفاح الفلسطيني ومواصلة دعم صمود أهلنا في غزه من قبل الدول العربية، هو واجب قومي وانساني، فما يجري في غزة الآن هو تهديد مباشر للأمن القومي العربي واستمراره يهدد باتساع دائرة الغضب وربما يهيئ لإنفجارات وبراكين لا قبل لأحد عليها. وقد رأينا ذلك بالفعل يتحقق الآن في عدد من الأقطار العربية، ضمنها سوريا ولبنان واليمن والعراق. ورأينا في المقابل اتساع دائرة العدوان، وانخراط الولايات المتحدة الاميركية في هذا الصراع.
لا مناص للخروج من هذه الأزمة إلا باعادة الاعتبار للقوانين الدولية، وللقرارات الصادرة عن مجلس الأمن الدولي ومن ضمنها قراري 242 336، القرارات التي اعتبرت الضفة الغربية ومدينة القدس وقطاع غزة أراض محتلة. وقد قبل العرب جميعا، والفلسطينيون منهم بشكل خاص هذه القرارات، التي اكدت على حق الفلسطينين في تقرير المصير وإقامة دولتهم الحرة المتسقلة فوق ترابهم الوطني. وقد حظيت هذه القرارات بدعم دولي شامل.
ومن ضمن الذين وافقوا على قيام الدولة المستقلة رؤساء اميريكيون مثل جيمي كارتر وبل كلينتون وباراك اوباما والرئيس الحالي بايدن، ولم يتبقى لكي يعم السلام ربوع هذه المنطقة سوى وضع تلك القرارات موضع التطبيق.

التعليقات مغلقة.

د.يوسف مكي