مجلس الشورى ومؤسسات المجتمع المدني
أمر إيجابي وجميل أن يناقش مجلس الشورى بالمملكة، بشكل مستفيض، نظاما جديدا مقترحا للجمعيات والمؤسسات الأهلية، لأن معنى ذلك أننا بدأنا فعلا خطواتنا الأولى في طريق الألف ميل، باتجاه توسيع دائرة المشاركة في صنع القرار، من خلال تفعيل دور مؤسسات المجتمع المدني، لتؤدي دورها في التنمية الوطنية والدفع بمشروع النهضة بما يتلاءم مع روح العصر. وسيكون جميلا أكثر، ورائعا أكثر، أن تطرح مثل هذه الخطوة للنقاش على أعمدة صحفنا المحلية، وفي الملتقيات الفكرية والأدبية، وأوساط النخب الثقافية، والمهتمين بالشأن العام، من أجل إثراء هذا النظام، وتفعيل الحراك الاجتماعي من خلال المناقشات التي تجري بشأنه.
وبحسب ما جاء في المادة الأولى للمشروع فإن هدف الجمعيات الأهلية هو الإسهام في التنمية الوطنية. وإشراك المواطن ومشاركته في إدارة المجتمع وتطويره. وتنظيم العمل الأهلي وتطويره. ويقينا أن هدف الجميع هو تحقيق مناخات ملائمة تساعد على زج كل الطاقات الوطنية، من أجل المساهمة في بناء هذا الوطن، وتحقيق نمائه واستقراره ورخائه. وليس من شك أيضا، أننا إزاء تجربة جديدة، نتمنى أن تكون رائدة ومعطاءة ومشعة، ومفتوحة لإسهامات واجتهادات المعنيين بالشأن العام، من أبناء هذه البلاد..
ولعلي، أتجرأ كمواطن، يمارس واجب المواطنة والإسهام بالنهوض ببلده، فأسجل في هذا السياق بعض الملاحظات التي أتمنى أن توضع بعين الاعتبار في مناقشات مجلس الشورى السعودي الموقر.
أولى هذه الملاحظات، أن الدولة قد استكملت بناء مؤسساتها التنفيذية، واتخذت خطوات نتمنى أن تستكمل قريبا تجاه بناء المؤسسات التشريعية والقضائية. وقد اضطلعت تلك المؤسسات بنجاح بالأدوار المنوطة بها خلال عقود طويلة، بما يتناسب مع طبيعة الأوضاع المحلية والدولية والمحيطة في تلك العقود. وقد حان الوقت ليؤدي كل مواطن دوره في تنمية ونمو ورخاء بلادنا العزيزة، وأن يشارك الجميع، كل من موقعه، في صناعة وتقرير حاضر الوطن ومستقبله. ولا شك أن وعي المسؤولين في القيادة، وعلى رأسهم خادم الحرمين الشريفين، الملك عبد الله بن عبد العزيز بهذه الحقيقة هو المحرض على اقتراح إصدار نظام جديد للجمعيات الأهلية، والطلب من مجلس الشورى دراسة هذا النظام.
وفي هذا السياق، ينبغي التأكيد على أهمية أن تكون النوافذ مفتوحة للمبادرات وللتفاعل المبدع بين القمة والقاعدة. ولن يتحقق ذلك بشكل فاعل ومؤثر إلا بالتمسك بمبدأ استقلال الجمعيات الأهلية، وتمكينها من لعب الأدوار المنوطة بها في تفعيل الحراك الاجتماعي والسياسي والفكري والثقافي، بما ينسجم مع الثوابت الوطنية، ويرسخ مبادئ السلم الاجتماعي ويعزز وحدة البلاد.
وما دامت الرغبة متجهة بشكل جدي إلى مؤسسات المجتمع الأهلي والمدني، لكي تلعب دورا أكبر في المشاركة ببناء المجتمع السعودي، فإنه مع التسليم بوجوب وجود هيئات تنسيق بين الدولة وبين المؤسسات الأهلية، للإشراف على حسن أداء سيرها، وما يشجع على الدفع بمسيرتها نحو خدمة الوطن، فإن صلاحيات تلك الهيئات ينبغي أن تكون محصورة في الإشراف والتنسيق، وألا تؤدي إلى إعاقة عمل الجمعيات وشل فاعليتها.
فعلى سبيل المثال، ينبغي التأكيد على حق الجمعيات الأهلية في اختيار أعضاء مجالس إدارتها، واتخاذ القرارات الخاصة بأنشطتها دونما تدخل من هيئات التنسيق الرسمية المعنية من قبل الدولة. إن دور لجان التنسيق أساسي ومهم في المجالات التي تخصها، وتشمل الجوانب التنظيمية المتعلقة بالتسجيل والإشراف المالي والإداري، والتأكد من عدم وجود خروقات للوائح الداخلية لتلك الجمعيات وأنظمتها الأساسية. لكن تلك التدخلات، على أية حال، ينبغي ألا تشل قدرة جمعيات المجتمع الأهلي على العمل، وأداء الأدوار المنوطة بها.
إن الهدف المعلن لتأسيس الهيئة الرسمية المشرفة على عمل الجمعيات، هو وضع السياسة العامة التي تضمن تنمية وتطوير الجمعيات والمؤسسات الأهلية وتحقيق أغراضها والإشراف على نشاطاتها وتقويمها. وتسجيل الجمعيات والمؤسسات الأهلية. وإجراء البحوث والدراسات في مجال العمل الأهلي. وما دام الأمر كذلك، فلعلنا لا نأتي بجديد إذا أكدنا على أن تسهيل عملية تسجيل الجمعيات، ينبغي أن تسير بسهولة ويسر، وبعيدا عن التعقيدات الروتينية. وأن تلزم هذه الهيئة نفسها بسقف زمني معين، يجري خلاله البت في طلبات إنشاء الجمعيات أو تسجيلها، بحيث تكون الجهة المنظمة ملزمة بإخطار المتقدمين للتأسيس رسميا بقرار قبول الطلب أو رفضه، وبحيث يكون قرار الرفض مسببا، وأن يحفظ للمتقدمين حق الاعتراض على قرار الرفض، أمام طرف محايد، لعله يكون ديوان المظالم. وبالمثل، يمكن أن تلجأ الجمعيات إلى ديوان المظالم أيضا، في قضايا العقوبات المترتبة عليها، نتيجة إخلالها بلوائحها الداخلية وأنظمتها الأساسية، بما في ذلك قرار الحل الإجباري للجمعيات.
ومع الإقرار، بأننا إزاء تجربة جديدة، لا بد وأن تكون عرضة للصواب والخطأ، وأنه في الحالات الإنسانية، يصعب علينا النظر بحيادية تامة إلى الأمور التي تجري من حولنا، فإن ذلك لا يكفي لإعفائنا من المسؤولية. إن التقليل من تبعات الاجتهادات الخاطئة يقتضي وضع معايير موضوعية محددة، ينص عليها نظام الجمعيات المقترح، وتكون ملزمة لمختلف الفرقاء.
ومن جانب آخر، فإننا نتوقع أن تكون الفضاءات واسعة فيما يتعلق بمنح الجمعيات الأهلية صلاحيات واسعة لإدارة شؤونها، والمشاركة في المؤتمرات، التي تعقد في المملكة أو خارجها، ذات الصلة بأوجه نشاطاتها، وبما لا يتعارض مع الثوابت الدينية والقومية والوطنية، دون اشتراط الحصول على إذن مسبق من الهيئة، حتى يمكن لهذه الجمعيات أن تحتفظ بالمرونة اللازمة لأداء أعمالها بيسر وسهولة.
نأمل أن تكون هذه الملاحظات موضع اعتبار من الإخوة في مجلس الشورى الموقر، ونتطلع إلى أن يكون النظام الخاص بالجمعيات واضحا، وبعيدا عن الغموض والتعقيد. ومرة أخرى، نؤكد على أهمية أن تتسم المناقشات بالتأني والاستفاضة، وأن تشمل كافة الملتقيات الفكرية والأدبية، والنخب الثقافية، والمهتمين بالشأن العام، حتى يخرج المشروع بصيغة ملائمة تجعله قادرا على تحقيق الأهداف المرجوة منه، وصولا إلى المساهمة في توسيع دائرة المشاركة في بناء الوطن وتعزيز وحدته وأمنه واستقراره وتحقيق نمائه.
yousifsite2020@gmail.com
د. يوسف مكي
تاريخ الماده:- 2006-05-24