متغيرات متسارعة في توازنات القوة الدولية
لم يعد الحديث عن حتمية انبثاق نظام دولي جديد، على انقاض النظام الذي تمخضته عن نتائج الحرب العالمية الثانية، مجرد قراءة استشرافية لمستقبل العلاقات الدولية، بل بات أمرا تعززه الأحداث ويؤكده تراجع الولايات المتحدة الأمريكية، التي كانت حتى وقت قريب القطب الأعظم، عن كثير من مواقعها العسكرية والاستراتيجية.
لم تكن سياسة العزلة التي فرضها الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب خلال الأربع سنوات من دورته الرئاسية، مجرد تنفيذ لبرنامج انتخابي، سانده الحزب الجمهوري، بل كانت تعبيرا، عن انتهاء حقبة الهيمنة الأمريكية على العالم. كما كانت تأكيدا على أن القرن الواحد والعشرين، لم يعد قرنا أمريكيا، كما وعد بذلك الرئيس جورج بوش عام 1990م وهو يلقي خطاب النصر العسكري، على العراق. لقد دشن سقوط الاتحاد السوفييتي وانهيار الكتلة الاشتراكية، وحرب الخليج الثانية، بداية حقبة الآحادية القطبية، التي لم يقدر لها أن تعمر سوى وقت قصير. ومثلت أحداث سبتمبر عام 2001، وما تلاها من احتلال لافغانستان والعراق، بداية النهاية لمرحلة الأحادية القطبية، والتهيؤ لانبثاق نظام دولي جديد متعدد الأقطاب.
انتهت الحرب العالمية، بتربع أمريكا والاتحاد السوفييتي على عرش الهيمنة الدولية. وتأكيدا لحضورها الدولي، كقطب أعظم، طرحت أمريكا في عهد الرئيس هاري ترمان، مشروع مارشال، الذي أعيد بموجبه إعمار القارة الأوروبية، بعد أن دمرت بالحرب… أعيد بناء ألمانيا واليابان، وجرى تجهيزهما ليكونا قوتين اقتصادتين باهرتين، ودليلا على نجاح النموذج الرأسمالي. وقد استكمل مشروع مارشال في عهد الرئيس دوايت أيزنهار. وكان ذلك جزءا من التنافس بين واشنطن وموسكو، بعد احتدام الحرب الباردة بين المعسكرين الغربي والشرقي. وكان ذلك اتساقا مع مقولة أن توسع الامبراطوريات مرادف لقوتها، والانكماش تعيبر عن ضعفها.
انتقد الرئيس جوزيف بايدن، بشراسة أثناء حملته الانتخابية، سياسة خصمه الانتخابي ترامب، ووعد بأن يعيد لأمريكا حضورها القوي في السياسة الدولية، وهاجم سياسات غريمه ترامب، تجاه الحلفاء بالقارة الأوروبية، وأكد بأن تستند علاقة بلاده بالحلفاء على مبدأ الشراكة والاحترام المتبادل، وليس القسر والإخضاع، وأن تنفتح أمريكا على العالم، وتدافع عن مصالحها الحيوية حيثما اينما كانت.
لكن الأحداث التي مرت في الشهور القليلة المنصرمة، بعد تسلم بايدن للمكتب البيضاوي في واشنطن، أوضحت أن سياسة العزلة التي انتهجها ترامب، لم تكن موقفا حزبيا، أو موقفا فرديا، من قبل الرئيس، بل أنها من جوهر السياسة الأمريكية، في هذه الحقبة. وهي سياسة تعكس وعيا عميقا بالمتغيرات التي جرت في موازين القوة الدولية، لغير صالح أمريكا على الأصعدة الإقتصادية والعسكرية.
لم تعد أمريكا وحدها، من يملك القوة العسكرية الضاربة، القادرة على فرض سطوتها فوق كوكبنا الأرضي، فهناك روسيا الاتحادية، التي أعادت بناء ترسانتها العسكرية، بما في ذلك سلاحها النووي، بقوة وسرعة قل أن يوجد لها نظير في التاريخ المعاصر. والصين الشعبية، لا تكتفي باكتساح الأسواق العالمية، ومنافسة الولايات المتحدة في المجال الاقتصادي، بل وتتفوق عليها في امتلاك العدد الأكبر من الغواصات، وتمضي قدما في بناء ترسانتها النووية.
لقد تنبأ كثير من علماء السياسة والمحللين الأمريكيين، بانبثاق نظام دولي جديد، لكن بقيادة أمريكية، من ضمنهم صامويل هانتجتون، وجاءت أحداث هذا العام، لتدحض ذلك، ولتؤكد أن أمريكا ليست في وارد قيادة العالم، بأي شكل من الأشكال. جاء الخروج السريع من أفغانستان، وإغلاق عدد من القواعد العسكرية في دول حليفة بالقارة الأوروبية، وبلدان الخليج العربي، لتؤكد تقهقر النفوذ الأمريكي، وتراجعه بشكل حثيث لم يكن في بال أكثر الناس تشاؤما ضمن المحليين السياسيين وحتى صناع القرار في أمريكا.
وفي الأسبوع الماضي، حدث ما لم يكن متوقعا، حين أعلنت استراليا إلغاءها لصفقة تم الاتفاق عليها عام 2016م، مع مجموعة نافال الفرنسية لبناء أسطول من الغواصات التقليدية، وأنها بدلا عن ذلك، ستبني ثمان غواصات تعمل بالطاقة النووية بتكنولوجيا أمريكية وبريطانية، بعد إبرام شراكة أمنية مع الدولتين. وقد جاء هذا التراجع، متزامنا مع الإعلان عن تشكيل تحالف استراتيجي بين واشنطون وكانبيرا ولندن، بما اعتبرته فرنسا، طعنة في الظهر.
تأتي هذه التطورات، وسط خلافات أمريكية مع تركيا، الحليف الآخر، في الناتو، ومع تزايد الدعوات، بتشكيل تحالف عسكري أوروبي، ينأى بنفسه عن أمريكا، ويمثل خطوة أخرى راسخة، على طريق الاستقلال، عن اليانكي الأمريكي.
نحن على أعتاب متغبرات كبرى في الساحة الدولية، تؤكد جميعها أن انبثاق نظام دولي جديد ليس سوى مسألة وقت.