ما يجري في العراق إرهاب أم ثورة؟!
عاد العراق مجددا إلى الواجهة، وأصبح ما يجري فيه من تحولات سياسية دراماتيكية موضوعا لوكالات الأنباء العالمية، ومحطات التلفزة، ومختلف مؤسسات الإعلام. لقد تسارعت الأحداث مؤخرا في هذا البلد الجريح. والنتيجة حتى الآن هي خروج ثلاث محافظات رئيسية، عن سيطرة الدولة العراقية، هي محافظات نينوى والأنبار وصلاح الدين. وشمول الانتفاضة ثلاث محافظات أخرى، جميعها تقع ضمن ما أطلق عليه المحتل الاميركي بالمثلث السني.
هناك روايتان عن القوة السياسية التي تصدرت قادت عملية سلخ المحافظات التي اشرنا لها عن المركز في بغداد. رواية حكومية تقول، ان جميع ما جرى في المحافظات، التي خرجت على الدولة العراقية هو من صنع تنظيم داعش. وبالتأكيد فإن هذا الاتهام، يتيح لحكومة نوري المالكي، تعاطفا دوليا، ويبرزه كضحية لقوى الارهاب. وهو بذلك يضع المقدمات، للقبول بتدخل إيران عسكريا، للقضاء على الثورة التي اشتعلت ضد سياساته.
الرواية الأخرى، وتعبر عن موقف الثوار. وتنفي ضلوع تنظيم داعش في ما جرى مؤخرا، في نينوى وصلاح الدين. إنما جرى، من وجهة النظر هذه، هو ثورة شعبية، قادتها العشائر العراقية، وشاركت فيها التنظيمات السياسية، التي قادت المقاومة العراقية، وأجبرت المحتل الأمريكي على الانسحاب، مكللا بالخيبة والهزيمة من أرض السواد . والدافع لهذه الثورة، هو الخلاص من نظام الاستبداد والفساد المدعوم من طهران، والمعتمد على سياسة الاقصاء والتهميش للمكون السني.
إن ما جرى من وجهة نظر الثوار، هو خطوة أولى على طريق تحرير العراق بأكمله من الحكم الطائفي الحالي، الذي يمثل احد افرازات الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003، خاصة وأن معظم من يقودون العملية السياسية الآن في بغداد، هم ممن عادوا للعراق على ظهور دبابات الاحتلال.
لقد أدى الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003 إلى تفكيك الدولة العراقية، وتصفية هياكلها. وكان أبرز ما أقدمت عليه قوات الاحتلال، هو حل الجيش العراقي. وفي حينه اعتبر وزير الدفاع الأمريكي، رونالد رامسفيلد ما جرى بأنه فوضى خلاقة، وأن حرق الجامعات والمكتبات والمتاحف من قبل الغوغاء، هو تعبير عن الحرية لشعب لم يتعود ممارستها من قبل. وتلا ذلك تشييد عملية سياسية، هندس لها وقادها المندوب السامي الأميركي بول برايمرز، تأسست على القسمة وتوزيع مصادر القوة السياسية حصصا بين المذاهب والأقليات.
وكان من نتائج حل الجيش العراقي، حدوث فراغ سياسي أمني في بلاد السواد، عوضت عنه ميليشيات الطوائف المسكونة بالكيدية وهواجس الانتقام من التاريخ. وكان من نتائجها، فك لجام الكلاب المسعورة، لتمارس حرية القتل بحق العراقيين، ولتعيد تركيبة العراق الديموغرافية، من خلال التهجير والنفي، بما يتسق مع الحظوة الأمريكية الجديدة، التي نالتها ميليشيات الطوائف.
لقد غيب حل الجيش العراقي، حالة التكافؤ في القوة، بين المركز والحركة الكردية بالشمال، التي ظلت تحت مصانة بالطيران الأميركي منذ مطالع التسعينيات. والنتيجة أن الشمال الكردي أصبح يتمتع بما تتمتع بالدول المستقلة، من وجود جيش خاص، وشرطة خاصة، وميزانية خاصة، ومؤسسات مستقلة خاصة به، ما إلى ذلك من متطلبات قيام الدول، وصار يمارس سلطته بمعزل عن المركز. وأصبحت مسألة الإعلان عن انفصال واستقلال الشمال، مسألة وقت، ورهن لتسويات وتوافقات اقليمية ودولية.
لم يكتف المحتل الأميركي بحل الدولة العراقية، وتفكيك مؤسساتها، وتشكيل نظام قائم على اساس القسمة بين الطوائف والاقليات، بل عمد إلى خلق ظروف مواتية لتقسيم العراق إلى ثلاث دول: دولة كردية في شمال العراق، ودولة شيعية في الجنوب ودولة سنية فيما عرف بالمثلث السني. وقد توجت هذه الخطوات، بتقديم نائب الرئيس الأميركي جوزيف بادن مشروع قرار إلى الكونجرس الأميركي يدعوا إلى تقسيم العراق إلى ثلاث دول. وقد وافق الكونجرس على ذلك، وأصدر قرارا غير ملزم للحكومة الأمريكية.
إن التطورات الأخيرة في نينوى وصلاح الدين والأنبار، إن هي اقتصرت على المحافظات التي يشكل فيها المكون السني غالبية السكان، فإنها تتسق حتما مع مشروع تقسيم العراق.
فالدولة الكردية في شمال العراق، هي أمر واقع متحقق ولم يتبق سوى الاعلان عنها. ودولة الجنوب الشيعة لم يكن لها أن تقوم في ظل هيمنة القوى الطائفية الموالية لإيران على المركز. وبالنسبة للأنبار، كان من المستبعد قبول القوى الاقليمية، وبخاصة إيران بخروجها عن المركز. فهذه المحافظة تشكل الطريق البري الوحيد، الذي يصل العراق بسوريا ولبنان وبالتالي إلى حوض البحر الأبيض المتوسط، بما يضمن تحقيق استراتيجية إيران، التي عبر عنها قادتها عدة مرات والتي تعتبر البحر الأبيض المتوسط عمق إيران الاستراتيجي غربا.
أما الموقف التركي فمرتبك وحائر تجاه ما يجري في العراق. ففي الوقت الدي يتعاطف فيه مع بعض التنظيمات الإسلامية فإنه يخشى، قيام دولة كردية مستقلة على حدوده الجنوبية.
الأوضاع في العراق خطيرة جدا، والأيام القادمة ستشهد صراعا دمويا مريرا. ولن يكون بمقدور حكومة المالكي لجم تطلعات العراقيين. إن المعلومات الواردة من تلك المحافظات، تشير إلى أن كثيرا من ضباط الجيش العراقي، الذي جرى حله ارتبطوا بالثورة.
مطلوب تدخل عربي فوري، لحماية العراق من التفكيك، ومنع المجازر وشلالات الدم، التي ينتظر أن تسيل قريبا. وينبغي تحشيد المجتمع الدولي، لمنع أي تدخل عسكري إيراني لنصرة حكومة المالكي المنهارة. إن خروج العراق من محنته لن تتم إلا بمصالحة حقيقية وبميثاق وطني يلغي العملية السياسية التي اسس لها المحتل، وتشييد عملية سياسية تستند على مبدأ المواطنة والندية والتكافؤ، وتأسيس جيش قوي تشارك، فيه على قدم المساوة جميع مكونات النسيج العراقي للدفاع عن سيادة البلاد وصيانة استقلالهاو عودة العراق بلدا عربيا قويا وشامخا.