ما أشبه الليلة بالبارحة

3
​​​​​​​​​د. يوسف مكي
عند كل منعطف، وانتقال من نظام دولي إلى آخر، يستعر التنافس بين الأقطاب الكبرى، ويعمل كل منهم، على اكتساب أوراق أكبر، لتعزيز موقعه. ولا تتردد القوى الكبرى عن استثمار النزعات الطائفية والصراعات الإثنية، وشن الحروب بالوكالة ببلدان العالم الثالث، لصالح مشاريعها.
في منطقتنا، على سبيل المثال، اتفق الفرنسيون والبريطانيون، على تقاسم المشرق العربي، وسوريا الكبرى بشكل خاص، فيما بينهم، بعد إسقاط السلطنة العثمانية. لكن ذلك لم يمنع استمرار التنافس بينهما، بعد الحرب العالمية الثانية. فقد عمل البريطانيون، أثناء الاحتلال الفرنسي لسورية، على فتح قنوات مع الزعماء المحليين. وبالمثل تنافس الفرنسيون والبريطانيون في الهيمنة على قناة السويس.
ولا شك أن الثروات ومصادر الطاقة، والممرات والمعابر الاستراتيجية، كانت من أهم عوامل التحريض على التنافس بين هذه القوى. ولم تكن سايكس- بيكو سوى محطة عابرة في هذا التنافس، ذلك أن القوى التي تنافست على المنطقة، باتت في مرحلة الشيخوخة، وباتت تترنح، بعد خسارتها كثيرا من قوتها العسكرية والاقتصادية، بسبب الاستنزاف الهائل الذي عانت منه أثناء الحرب العالمية الثانية. وبقيت مشلولة وعاجزة، أمام الصعود الكاسح للاقتصاد الأمريكي، وامتلاك أمريكا والاتحاد السوفييتي لسلاح الرعب النووي.
والواقع أن القوى الاوروبية القديمة، عملت كل ما من شأنه الحفاظ على نفوذها. ولم تتردد عن القيام بانقلابات عسكرية، في بلدان العالم الثالث، ومنه وطننا العربي، متى ما وجدت أن من شأن ذلك صيانة مصالحها. لكن معضلتها أنها تنافست مع حليف قوى، هو أمريكا التي تبنت بشكل واضح وعلني، إزاحة الاستعمار القديم وأخذ مكانه، حتى قبل أن تضع الحرب العالمية الثانية أوزارها.
في سوريا على سبيل المثال، كان التنافس واضحا بين الاستعمار الأوروبي، والأمريكيين، فقد بدأت سلسلة الانقلابات العسكرية، بعد الاستقلال، منذ عام 1949، حين قاد اللواء حسني الزعيم أول انقلاب، تبين أنه مدعوم من شركات النفط الأمريكية، التي كانت تطمح في الحصول على مواقع لتصدير النفط عبر موانئ المتوسط. وما هي إلا فترة قصيرة، حتى قام انقلاب آخر، قاده اللواء سامي الحناوي، وتبين أن شركة البترول البريطانية العراقية تقف خلفه، ولم تمض سوى فترة قليلة، حتى قام اللواء أديب الشيشكلي بانقلاب آخر، قيل أنه مدعوم من أمريكا. وقد عكست هذه الانقلابات حدة التنافس، الاقتصادي بين الدول الحليفة.
لقد حسم الوضع في أخر الأمر، لصالح أمريكا، وباتت الأقوى، ضمن الدول الغربية، والمنافس الأوحد للاتحاد السوفييتي. ولذلك يمكن القول، أن الحرب الباردة، التي اشتعلت منذ مطالع الخمسينيات كانت بين بين الروس والأمريكيين،. ولم يكن دور أوروبا القديمة في تلك الحرب، سوى دور التابع المطيع للسياسة الأمريكية.
ورغم التسليم بأن التاريخ لا يعيد نفسه، بمعنى أن أحداثه لا يمكن استنساخها، كونها خاضعة لقانون الحركة والتعاقب، فإن ما يجري الآن، من أحداث في القارة السوداء، وبشكل خاص في السودان والنيجر، هو في جوانب كثيرة منها، استعادة لمناخات الحرب الباردة، التي اشتعلت منذ مطالع الخمسينيات، حتى سقوط حائط برلين في أواخر الثمانينات من القرن الماضي. ولعل التعبير الأكثر دقة لها، أنها محاولة بائسة من قبل أوروبا القديمة، لإيقاف عقارب الساعة، باستخدام ما تبقى من نفوذ عسكري، وولاءات وتحالفات محلية.
ذلك لا يعني تقرير من قبلنا أن فرنسا وبريطانيا قد فقدتا حضورهما في القارة السوداء. فقد بقيت الكثير من المستعمرات في حيازتهما، رغم منطق الازاحة الذي اعتمدته الإدارة الأمريكية منذ عهد الرئيس روزفلت، واستمرارا بترومان وبقية الرؤساء الأمريكيين.
النهوض العسكري والسياسي الذي تحقق لروسيا الاتحادية، في ظل قيادة الرئيس بوتين، والصعود الاقتصادي الكاسح للصين أعاد مجددا تشكيل العالم بالقارات القديمة، ومن ضمنه القارة السوداء، حيث بنت روسيا والصين تحالفات قوية في عدد من دولها، من ضمنها الجزائر ومالي وبركينافاسو.
لقد جاء الانقلاب الأخير، في النيجر، ليضيف عمقا استراتيجيا لروسيا الاتحادية في أفريقيا. إن استسلام فرنسا للانقلاب، يعنى تخليها عن واحد من معاقلها الأخيرة في هذه القارة. ولذلك تعمل على تحشيد الدول الموالية لها، لمواجهة الانقلاب، تحت ذريعة حماية الديمقراطية، واستعادة الرئيس الشرعي لمنصبه، حتى لو استدعى ذلك استخدام القوة العسكرية. لكن الأمر لا يبدو سهل المنال. فروسيا رغم عدم افصاحها عن دعم الانقلابيين، ترفض بقوة أي تدخل عسكري، ضد النيجر، ولن تتردد عن دعم حلفائها لحرمان الفرنسيين من تحقيق أي نصر، ولتؤكد حضورها السياسي القوى في الساحة الدولية.

التعليقات مغلقة.

د.يوسف مكي