ما أشبه الليلة بالبارحة
د. يوسف مكي
أحداث الاحتجاج الجارية بالجامعات الأمريكية، ابتدأت من جامعة كولومبيا، بمدينة نيويورك، شرق الولايات المتحدة، رفضا لحرب الإبادة للفلسطينيين في غزة، لتتوسع لاحقا، لتصل أقصى الغرب، في ولاية كاليفورنيا، ولتشمل أكثر من مائة وستين جامعة أمريكية، في طول البلاد وعرضها.
تعيدنا هذه الأحداث، إلى مرحلة الستينيات، من القرن الماضي، حين هبت حركة احتجاجات شعبية واسعة، شملت الولايات المتحدة، وتركت آثارها السياسية على العالم بأسره، وكان لها ما بعدها من تحولات وظواهر اجتماعية وبنيوية وسلوكية، لا تزال تأثيراتها، قائمة حتى يومنا هذا. أسباب تلك الاحتجاجات عديدة ومركبة. ولكل سبب خارطته الجغرافية الخاصة به، وقادته الذين تحولوا إلى أسماء لامعة في التاريخ الأمريكي.
فمن جهة، استعار الحرب في الهند الصينية، والتي امتدت لاحقا من فيتنام، لتشمل لاوس وكمبوديا، فيما حذر منه مستشار الرئيس نيكسون لشؤون الأمن القومي، هنري كسينجر، وأطلق عليه بالدمينو، وبموجبه تتسبب الحروب الكبرى، في التوسع والانتقال إلى بلدان أخرى. وكانت تلك الحرب، من أهم حروب الوكالة في القرن العشرين.
ولا شك أن خسائر الجيش الأمريكي، والتي تقدر بثمانية وخمسين ألف قتيل، ومئات الألوف من الجرحى، تصل بعض التقديرات بتعدادهم إلى النصف مليون، أحدثت غضبا وحزنا لدى الشعب الأمريكي، الذي طالب بوقف الحرب، وعودة الجنود الأمريكيين إلى بلادهم.
وكما أشرنا، فإن نتائج الحرب، تسببت في تغييرات جوهرية، سلوكية وبنيوية. فمنذ ذلك التاريخ، فرض على جميع مواقف السيارات، وبضمنها المباني الخاصة، أن تترك أماكن محددة، للجرحى، الذين تم توصيفهم بذوي الإحتياجات الخاصة. وكل من يحتل أحد هذه المواقف، دون حمل لوحة تشير إلى أن صاحب السيارة، يملك حق الوقوف فيها، تفرض عليه غرامات، يؤدي تكرارها إلى سحب رخص القيادة.
تزامنت تلك الاحتجاجات، مع انطلاق حركة الحقوق المدنية، من العاصمة واشنطن، بقيادة القس مارتن لوثر كنج، وستوكلي كارا مايكل، في مدينة لوس انجلوس, والتي طالبت بمساواة السود، بالمواطنين البيض، في كل الحقوق، بما في ذلك حق العمل، واستخدام وسائل النقل، ومن غير إجبارهم على الجلوس بالمقاعد الخلفية بالحافلات الكبيرة. وقد بدأت احتجاجات حركة الحقوق المدنية، برفض سيدة من السود، طلبا من سائق الحافلة الجلوس بالمقعد الخلفي. وكان السود في حينه، يمنعون من دخول عدد كبير من المطاعم، وأماكن التسوق. ومن المألوف في حينه، وجود لافتات مكتوبة، تمنع السود والكلاب من دخول الكثير من المطاعم.
ومن جهة أخرى، انطلقت من جامعة بيركلي، بولاية كاليفورنيا، الحركة النسوية، لتتوسع لاحقا لتشمل معظم المدن الرئيسية في أمريكا. وقد برزت في حينه اليسارية انجيلا ديفيد، التي وصفت أسباب مشاركتها في الحركة الاحتجاجية، بالمركبة. فهي أولا سوداء، تعاني كما يعاني أخوتها السود، من العنصرية، وغياب الحقوق، وهي أيضا، سيدة، كغيرها من النساء الأمريكيات المحرومين من حقوقهن.
ولا شك أن تلك الاحتجاجات، بأسبابها المركبة، التي أشرنا لها، قد حققت الكثير من المنجزات. يكفي في هذا السياق، الإشارة إلى أن البرنامج الانتخابي للرئيس ريتشارد نيكسون، قد حمل وعدا بانسحاب القوات الأمريكية، من الهند الصينية، حال فوزه في الانتخابات. وترجع كثير من التقديرات، إلى أن هذا الوعد، كان من أسباب نجاحه في الوصول إلى البيت الأبيض، مشيرين إلى فشله السابق في الانتخابات، أمام الرئيس جون كنيدي.
نحن في الوقت الحالي، إزاء مسألة أخرى، تسببت في الحركة الاحتجاجية الراهنة، التي لا تزال تتصاعد يوميا بالجامعات، لتعم جميع المدن الأمريكية، ولتتوسع ممتدة في الأيام الأخيرة، إلى القارة الأوروبية، في فرنسا وبريطانيا، وهي مرشحة لتمتد إلى دول أوروبية أخرى، طالما استمر العدوان الإسرائيلي، على الشعب الفلسطيني. فهذه القضية لا تمس حياة الأمريكيين بشكل مباشر، إلا من حيث علاقتها، بالضرائب التي تخرج من جيوبهم، لتتحول إلى أسلحة قتل، تستخدم ضد المدنيين في غزة.
وإذن فالدافع هنا، على الأغلب، ليس مصلحة ذاتية، بل موقفا أخلاقيا وإنسانيا، يرفض الظلم، ويرى في الموقف الرسمي الأمريكي، خروجا على الدستور، ومبادئ حقوق الإنسان.
ومن غير شك، فإن لوسائل التواصل الاجتماعي، دورا كبيرا، في تعريف العالم على حجم المأساة، التي يتعرض لها الفلسطينيون، في قطاع غزة والضفة الغربية، ومدينة القدس الشرقية. فهذه المناطق، ولأكثر من خمسة وسبعين عاما، تعيش في ظل نظام فصل عنصري، واحتلال مقيت، مناف للقوانين والأعراف الدولية، ولمبادئ الأمم المتحدة، التي تؤكد على حق الشعوب في الاستقلال وتقرير المصير، وإقامة الدولة الفلسطينية، فوق التراب الوطني.
لقد تغير العالم بأسره، منذ السابع من اكتوبر، من العام الماضي، وباتت قضية فلسطين من ضمن شواغل المجتمع الدولي، بعد أن كانت مغيبة عنه، عقودا طويلة. وقد أدى استعصاء المعضلة، وعدم قبول حكومة نتنياهو الاعتراف بالحد الأدنى من حقوق الفلسطيين، إلى جعلها مشكلة أمريكية، كما هي مشكلة العالم بأسره. وستكون الشغل الشاغل، لأي مرشح للانتخابات الرئاسية الأمريكية، سواء كان جوزيف بايدن، أو غيره.
ورغم التضحيات والخسائر، والدمار الذي لحق بالقطاع، فإن كل المؤشرات، تشي باقتراب موسم الحصاد، موسم الاعتراف بالحقوق، وإنهاء الاحتلال، وقيام الدولة الفلسطينية المستقلة.
Yousifmakki2010@gmail.com
التعليقات مغلقة.