ماذا بعد كشف المستور؟!

0 377

 

شغلت وسائل الإعلام العالمية هذا الأسبوع، بالوثائق السرية الأمريكية، التي نشرها موقع ويكيليكس، مساء الجمعة الماضي، حول الحرب في العراق، في ما اعتبر “التسريب الأكبر لوثائق عسكرية سرية في التاريخ”،

تضمنت اتهامات واضحة للقوات الأمريكية وحكومة نوري المالكي ولإيران بارتكاب جرائم حرب ضد الإنسانية.

 

لن نستغرق كثيرا في تفاصيل هذه الوثائق، فقد أصبحت متاحة للجميع، وبالإمكان الرجوع لها غبر عدد كبير من مواقع الانترنيت. وأهمية هذه الوثائق لا تكمن فيما احتوته من معلومات. عن قيام قوات الاحتلال الأمريكي بارتكاب جرائم حرب، وضلوع من نصبوا في الحكم، والحكومة الإيرانية بتلك الجرائم, فما يعرفه العراقيون، والمهتمون بشؤون العراق أكبر بكثير مما تم نشره، رغم ضخامة عدد الوثائق التي تم نشرها.

ما يهم في نشر الوثائق، هو أنها اعترافات أمريكية، من جهات معنية مباشرة بما يجري على أرض السواد. وهي تأكيد بعلم الإدارة الأمريكية بما يجري من انتهاكات صارخة لحقوق الإنسان، وأنها شجعت، عن عمد على تلك الانتهاكات، بما يناقض القول بأنها أرسلت قواتها لتحرير العراق، والدفاع عن حرية العراقيين. كما تدحض هذه التقارير نفي إدارة الرئيس بوش المتكرر للتقارير التي تصدرها المقاومة العراقية، عن ممارسة الجيش الأمريكي، والميليشيات العراقية، والحرس الثوري الإيراني، في سجون مطار بغداد وأبو غريب والجادرية.

نشر هذه التقارير يطرح قضايا جوهرية عديدة، بعضها يتعلق بتوقيت التسريب، والبعض الآخر، حول ماهية التشابك، والوحدة التضاد في السياسات الأمريكية- الإيرانية بالمنطقة. وتعيد أيضا طرح السؤال عن أهداف الحرب الأمريكية على العراق، بعد أن أصبح مبرر نشر الديمقراطية، بحكم المعدوم. وتفتح أيضا أسئلة حول الآفاق المحتملة لنشر هذه التقارير على صعيد محاكمة مجرمي الحرب في العراق، أسوة بما جرى في يوغوسلافيا السابقة، والسودان وعدد آخر من الدول، المارقة الخارجة على الطاعة.

قيل في توقيت التسريب أسباب كثيرة، منها أن أعضاء متنفذين بالحزب الديمقراطي شجعوا على تسريب المعلومات، بوقت تستعد فيه الولايات المتحدة لانتخابات نصفية للكونجرس الأمريكي، تشير معظم الدلائل إلى أن الجمهوريين سوف يحصدون معظم مقاعدها. إن نشر الوثائق، من وجهة النظر هذه سوف يؤذي سمعة الجمهوريين، وسيحد من فرص فوزهم بالانتخابات، ويمكن الديمقراطيين من مواصلة السيطرة على مركزي الرئاسة والكونجرس في آن معا.

قيل إن هذا التسريب، جاء بتشجيع من المعارضين لتسلم نوري المالكي، لرئاسة الحكومة، بعد أن اتفقت القوى المتحالفة معه، والمعروفة “بدولة القانون”، على اختياره مرشحا هذا المنصب. إن فضح دور المالكي في عمليات تعذيب العراقيين، وتورط القوات التابعة له في اتتهاكات فاضحة لحقوق الإنسان، بلغت حد الاغتصاب والقتل، والأمر باغتيال الخصوم، والانحياز المالكي، للطائفة الشيعية التي ينتمي إليها على حساب بقية العراقيين، ستمنح قوة لخصومه ثقلا كبيرا يدعم رفضهم تسلمه لرئاسة الحكومة، وستطرح بقوة موضوع محاسبته قانونيا على جرائم الحرب التي ارتكبها بحق شعبه.

وقيل أيضا إن هدف التسريب هو إضعاف شعبية أحمدي نجاد، بعد الاستقبال الشعبي الكبير الذي حظي به أثناء زيارته الأخيرة للبنان.

القراءة الدقيقة لمجريات الأمور، لا تمنح أرجحية لهذه الاستنتاجات. فالموقع الذي سرب هذه الوثائق سبق له تسريب وثائق مماثلة، صادرة من البنتاجون عن الحرب في أفغانستان. ورغم منطقية الربط بين نشرها وبين الانتخابات فإنه لا يوجد دليل عملي يؤكد صحة الربط.

وبالنسبة للعراقيين، فإن أهل مكة أدرى بشعابها. بمعنى أن العراقيين، الذين عانوا لأكثر من سبع سنوات من عذابات الاحتلال، ليسوا بحاجة لمن يأتيهم من خارج المكان، ليثقفهم عما يجري ببلادهم. والعراقيون بالتأكيد هم أكثر خبرة ومعرفة بهوية المالكي الطائفية. فهم الذين عانوا من فصل مدينة بغداد إلى كانتونات طائفية، شرد بسببها عشرات الآلاف من منازلهم. ولن تضيف لهم الوثائق كثيرا. ربما يسهم التسريب في كشف المستور عن سيرة المالكي خارج العراق، لمن لم يكن له سمع أو بصيرة من قبل، ولكن ذلك لا يصيف شيئا بالداخل، سوى كونه ورقة أخرى، يمكن أن تستخدمها المعارضة، بقيادة إياد علاوي في مواجهة “دولة القانون”. والقول بدور المعارضين للمالكي في نسريب وثائق من البنتاجون، فيه مبالغة كبيرة، تمنح هذه المعارضة ثقلا كبيرا، يمكنها من تحقيق احتراقات في مؤسسات أمريكية مهمة، كوزارة الدفاع، وذلك أمر لا يمكن الجزم به. وهو أمر لم يثبت على أية حال.

أما بالنسبة لنجاد، فالإشارة لاستقبالات ضخمة له بلبنان، وأن التسريب قد جاء بهدف الحد من شعبيته، فذلك أيضا مشكوك به، خاصة وأن استقبال الرئيس الإيراني، في لبنان قد شابته صبغة طائفية، وهذه الصبغة لن تتغير بمجرد كشف المستور عن سلوك إيران في العراق، ومشاركتها في جرائم الحرب، عبر تهريبها السلاح التقليدي لقتل المدنيين، ومساندتها للأحزاب والمنظمات الشيعية الموالية لها، بشكل خاص جيش المهدي ومنظمة بدر الجناح العسكري للمجلس الإسلامي العراقي الأعلى.

ما هو مهم هو أن التسريب قد حصل فعلا. ومعرفة دوافع التسريب على أهميتها، لن تقلل من وقع تأثير نشر هذه الوثائق. إن ردة فعل الإدارة الأمريكية، ونوري المالكي، وإيران وحلف شمال الأطلسي، والقلق الكبير من نشر الوثائق، هو أكبر دليل على مدى ما أحدثته من تأثير.

إن خشية الإدارة الأمريكية، عبر عنها أكبر من مسؤول أمريكي بالقول، بأن المعلومات سوف تؤذي الضالعين بتلك الانتكاهات، وستضر بأرواح العسكريين الأمريكان بالعراق. وهو قول غريب، مناف لأبسط الحقوق القانونية والأخلاقية لضحايا الحرب، التي تتيح لهم مقاضاة جلاديهم، أمام القضاء. وذلك بالنسبة لنا هو جوهر ما تقدمه هذه الوثائق، كونها تمثل أول اعتراف رممي أمريكي، من جهات معنية مباشرة بما يجري في العراق. وهذه النقطة الجوهرية هي التي تتيح لقوى السلم في العالم، محاسبة مجرمي الحرب، وفقا للقانون الدولي وشرعة الأمم، وهو موضوع نعد بمناقشته في الحديث القادم بإذن الله

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

اثنان × 3 =


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.

د.يوسف مكي