ماذا بعد عودة القيصر إلى المسرح الدولي؟

0 239

كان سقوط جدار برلين في نهاية الثمانينات من القرن المنصرم إيذانا ببدء مرحلة جديدة، منذرة بنهاية الثنائية القطبية في صناعة القرار الدولي، وانتهاء الحرب الباردة التي حكمت العلاقات الدولية، بعد الحرب العالمية الثانية. فقد سقطت خلالها كتلة الدول الاشتراكية، وشهدت نهاية حلف وارسو، وانفرط عقد الاتحاد السوفيتي، وتناثرت جمهورياته كحبات السبحة، الواحدة تلو الأخرى.

 

في تلك الأثناء، كان الغريم الأنجلو- ساكسوني، على الضفة الغربية من الكرة الأرضية، يرقب تطورات ما يجري في الشرق عن كثب، وربما شارك في صناعة بعض من أحداثه الدرامية، ويتهيأ لاقتناص أقرب فرصة للتفرد بعرش الهيمنة على صناعة القرار فوق كوكبنا… وكانت حرب الخليج الثانية قد منحته الفرصة ليسجل الضربة القاضية لغريمه، وليصبح دون منازع سيد البراري والأجواء والبحار، وصانع القرار في بلدان الضباب، وحيثما تسلط أشعة الشمس خيوطها.

 

كانت القرارات في مجلس الأمن الدولي، منذ أغسطس عام 1990 تتم بوتائر سهلة وبسرعة غير معهودة، كما صممتها الإدارة الأمريكية. لم يكن هناك صخب وجدال أو تهديد باستخدام حق النقض (الفيتو) من قبل أي من الفرقاء الذين يملكون اعتباريا استخدام هذا الحق.

 

وأصبح واضحا للجميع أن روسيا الاتحادية، الجمهورية الوليدة، والمنبثقة من ركام الإمبراطورية السوفيتية السابقة، ومعها الجمهوريات التي انفرطت من عقد تلك الإمبراطورية تعيش حالة مهولة من الفوضى والفساد. وكانت تماثيل القائد المؤسس للسوفيت ومن خلفوه يجري تحطيمها في كرنفالات فريدة غير مسبوقة.

 

بدا الغريم اليانكي منتشيا حد الثمالة بسقوط معادله وشريكه. وقد شاء أن يقطع كل الشكوك حول تفرده بالهيمنة على إدارة الشؤون السياسية والاقتصادية والعسكرية، وأيضا الثقافية في المسرح الدولي، فراح يضرب يمنة ويسرة. يبعث بأساطيله البحرية والجوية إلى أبعد المواقع… يفرض حظرا جويا على ثلثي الأراضي العراقية، ويحاصر العراق من البر والبحر والجو، وتقصف طائراته بشكل همجي ووحشي مدن كوسوفو، وينزل جنود بحريته على السواحل الصومالية والرواندية. ويتعدى على مناطق نفوذ الاتحاد السوفيتي السابقة، ضاربا المواقع الإستراتيجية للحكومة القيصرية الروسية الجديدة، ملحقا تلك المناطق، تباعا بحلف الناتو، ومن ثم ربطهم بالاتحاد الأوروبي.

 

لكن التحول الدراماتيكي تجاه استعار النزوع العدواني الأمريكي لم يأخذ مكانه بعنف وقوة مفرطة إلا بعد إعصار الحادي عشر من سبتمبر عام 2001م، حيث أعلن الرئيس جورج بوش بوضوح برنامجه للقرن الواحد والعشرين: حرباً عالمية على الإرهاب، ونشر الديموقراطية، وإلغاء الهويات القومية، وتنشيط النعرات الطائفية والإثنية، وتبني لافتات حملت معاني مقيتة، غابت عن الذاكرة الجمعية لحقب طويلة: صراع حضارات، ونهاية التاريخ، وشرقاً أوسط كبيراً، ما لبث أن جرى تحديثه فأصبح شرقاً أوسط جديداً، وعولمة متوحشة، وشركات متعددة الجنسيات تمارس العبث والنهب، وسرقة كنوز الأرض في أرجاء المعمورة، وهجوم سلام لا يستقيم معه أمن، وتهديدات بإسقاط أنظمة الاستبداد، وإعادة تشكيل خارطة المنطقة بشكل أكثر دراماتيكية من التشكيل الذي ساد بعد نهاية الحرب العالمية الأولى.

 

وسرعان ما أفصحت هذه اليافطات عن معانيها الحقيقية، في احتلال أفغانستان والعراق، وشطبهما من خارطة الدول المستقلة، وتدمير مؤسساتهما الرسمية والثقافية، وبنيتهما التحتية. ثم ما لبث الأمر أن استشرى فشمل تمزيق أوصال السودان والصومال، وتحريض الصهاينة على مواصلة حربهم وإرهابهم ضد شعب لبنان، وفصم عرى التواصل بين قطاع غزة والضفة الغربية.

 

آنذاك، انكفأت القوى الكبرى على نفسها، وكانت ختلة، بدت وكأنها استراحة لمحاربين أنهكتهم ضراوة الصراع، فقبلوا بنتائجه المتحققة على الأرض. لكن الواقع ما لبث أن كشف أمورا أخرى مغايرة. لقد ترك الجلاد يمارس القتل والعبث في ضحاياه في العالم المقهور، وبشكل خاص في منطقتنا العربية. وكانوا سعداء بانشغاله باستعراض عضلاته. كان سيد البيت الأبيض يستنزف في بقاع عديدة من العالم، وقد أقنع نفسه أنه رسول العناية الإلهية لفرض قيم المسيح. ولم يتردد عن القول صراحة إنه يخوض حربا صليبية. لكنهم فيما يتعلق بمصالح أممهم، وضعوا له خطوطا حمرا لا يمكنه تجاوزها.

 

فالصين على سبيل المثال، اقتنصت فرصة انشغال القطب الأوحد باستحقاقات التربع على عرش الهيمنة، وكسبت باعترافها بتلك الاستحقاقات عودة هونج كونج. وحين قرر الرئيس الأمريكي السابق، بيل كلينتون تقديم أسلحة متطورة للصين الوطنية، قدمت له حكومة الصين الشعبية إنذارا بسحب عرضه، وتم ذلك بعد أقل من ثمانية وأربعين ساعة من الإنذار. وكان تضامنها مع كوريا الشمالية، في أنشطتها النووية قد حال دون قيام الإدارة الأمريكية بتوجيه ضربة لحليفتها. وعلى الصعيد الاقتصادي، كان النمو الصيني يتقدم بسرعة مذهلة فاقت كل التوقعات. وكانت ألمانيا وفرنسا تشهدان نموا اقتصاديا قويا. أما الهند فقد دخلت بوابة الصناعات الإلكترونية، وأصبحت من روادها الرئيسيين، وصار علماؤها الشبان، مضرب المثل في الإبداع وجودة الأداء. وكانت تلك الفترة المكتظة في التاريخ الإنساني، فرصتها لإنجاز مشروعها النووي، وصنع القنبلة الذرية.

 

أما روسيا الاتحادية، التي عاشت حالة من الانتشاء، فالذهول ومن ثم الفوضى ، والانهيار الاقتصادي والاجتماعي والأخلاقي، وبروز مافيات، تعرض كل شيء للبيع، بمن في ذلك البشر، والتاريخ والعلماء والإنجازات العلمية، فإن شعبها سرعان ما استعاد وعيه مكتشفا حجم الكارثة. وجاء الرئيس الروسي الشاب، فلاديمير بوتين، ليعمل بصمت ويحث الخطى بقوة من أجل استعادة هيبة الدولة، لكي تؤدي دورها في خدمة المواطن، ولكي تستعيد روسيا مكانتها اللائقة على الساحة الدولية. وحسبها العالم غفوة طويلة..

 

ساد تصور لدى الكثير من المحللين أن شتاء الدب القطبي سيكون طويلا، وأنه إذا كان هناك من أمل في تغيير المعادلة الدولية، وخلق عالم متعدد الأقطاب، فإن ذلك ربما ينتج عن الدور الاقتصادي المتسارع للصين في الساحة الدولية، أو ربما تتغير المعادلة الدولية بسبب نمو النزعات الاستقلالية في أوروبا الغربية، وبخاصة في الدول التي وصفها وزير الدفاع الأمريكي السابق دونالد رامسفيلد بأوروبا القديمة. وكان موقف ألمانيا وبلجيكا المناوئ لصدور قرار أممي يعطي الولايات المتحدة حق شن الحرب على العراق، والتهديد الفرنسي باستخدام حق النقض للحيلولة دون صدور مثل هذا القرار قد أوحى بإمكانية انفراط عقد التحالف الغربي، وبروز الثنائية القطبية من هناك. وتصور آخرون أن تحالفا صينيا هنديا ربما كان هو الركن الأساس في إنهاء التفرد الأمريكي على صناعة القرار.

 

لكن الدب القطبي فاجأ العالم، بسرعة لم تكن في حسبان أكثر المتفائلين. برز الرئيس الروسي بوتين في الأشهر الأخيرة، قيصرا نشطا يعيد للتاريخ الروسي حضوره على الساحة الدولية. لقد فرغ القيصر من لملمة جروحه، وأعاد ترتيب بيته. ووضع بلاده على الجادة الصحيحة. أعاد تشغيل الماكنة الصناعية والعسكرية. وتتالت خطواته بسرعة. أعلن عن تصنيع أحدث طائرة مقاتلة في العالم، ثم أعلن عن تصنيع صاروخ عابر للقارات، بقوة دفع ذاتي قادر على حمل رؤوس نووية. وتحدى الإدارة الأمريكية فأعلن عن تزويده لخصمها الفنزويلي، شافيز بأحدث صفقات السلاح، وطائرات وأسلحة بالستية لسوريا لتواجه بها أي عدوان صهيوني أو أمريكي محتمل. وأعلن تحديه واستمراره في التعاون مع طهران في استكمال برنامجها النووي بمفاعل بوشهر.

 

وعلى الصعيد الأممي، عارض صدور قرار بفرض المزيد من العقوبات على إيران، كما أعلن تحفظه على صدور قرار أممي عن مجلس الأمن الدولي بتشكيل محكمة دولية لقتلة رئيس الوزراء اللبناني الراحل، رفيق الحريري. واعترض أيضا على صدور قرار آخر عن مجلس الأمن بإقفال ملف أسلحة الدمار الشامل العراقية. وخرج عن صمته في قضية كوسوفو، وعارض بشدة السياسة الأمريكية فيها. وأخيرا، وقف بصلابة ضد مشروع الدرع الصاروخي الأوروبي الذي أعلن عنه الرئيس الأمريكي جورج بوش، وهدد بعودة الحرب الباردة، ووقف مباحثات نزع السلاح، والتعاون فيما يتعلق بقضايا محاربة الإرهاب. وكانت الأزمة الأخيرة مع الحكومة البريطانية، وإقدام روسيا على طرد أربعة دبلوماسيين بريطانيين، ومنع منح تأشيرات للمسؤولين البريطانيين لدخول روسيا، ووقف التعاون مع بريطانيا في مجال الحرب على الإرهاب، ورفض تسليم متهم روسي بالقتل لأجهزة الأمن البريطانية، والتعلل بأن الدستور الروسي لا يجيز تسليم مواطنين روس لدولة أخرى، كل هذه التطورات قد كشفت بجلاء أن خريف التفرد الأمريكي على صناعة القرار الدولي قد بدأ. وتشير التطورات الأخيرة إلى أن هذا الخريف لن يطول، وأن القيصر يعود بقوة لممارسة دوره التاريخي في صناعة القرار الدولي.

 

ماذا بعد عودة القيصر السريعة إلى مسرح الصراع الدولي؟ هل سنكون أمام عالم بثنائية قطبية، أم إننا نقترب من عالم متعدد الأقطاب؟ والأهم من ذلك بكثير، ما تأثير ذلك علينا نحن العرب؟ وكيف نتهيأ له؟ وأسئلة أخرى ملحة، سوف نتناولها بالقراءة والتحليل في الحديث

 

yousifsite2020@gmail.com

 

اضف تعليق

اسمك بريدك الالكتروني

 

تعليقك:

تعليقات

 

* تعليق #1 (ارسل بواسطة ناصر جميل)

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الاستاذ يوسف مكى المحترم

تحيه عطره0

يبدوا ان قادتنا وولاة امورنا غير ابهين بما تكلمت عنه رغم كل التحديات الواقعه علينا وكذلك غير ابهين بالتحولات التى تجرى من حولنا وامكانية الاستفاده منها للخروج بالواقع العربى من الهيمنه الامريكيه وجعل المال العربى فى خدمة قضايا الامه ومصالحها لا فى بنوك امريكا والغرب بصوره عامه0 والتحرك ضمن موقف فيه شىء من المصداقيه فى التعامل مع الذات0 وكفى خداعا للشعوب العربيه بان قضيتنا واحده ونتعامل باساليب قطريه انانيه تقدم فيها مصلحه الكرسى على مصلحة الشعب0 لقد كان فى العالم قطبان قبل انهيار الاتحاد السوفياتى 0 وبقى القطب الواحد وما فعل بالعالم من خلال نشر الفوضى وفعلا نحن الان امام تغيرات ببروز قوى اقليميه ومن خلالها تنشىء اقطاب متعدده لكن نحن العرب لم نستفد لا من الماضى عندما كان بالامكان اعطاء السوفيات مشاريع وتسهيلات اقتصاديه من اجل قضايا امتنا بدلا من زرع المال العربى فى بنوك امريكيه غربيه يذهب ريعها للصهاينه 0 ولا من الحاضر حيث لم تنفعنا علاقات الصداقه الحميمه مع واشنطن وانكارها للحق العربى بل زادته فى نشر الفتن هنا وهناك واحتلال العراق وما حدث لشعبه من ماسي0 لاندرى على من نلقى الوم علينا نحن الشعوب المستعبده على ارضها ام على حكامنا الذين ورثونا وباعونا وبلادنا بابخس الاثمان0 علينا ان نبحث عن طرق التجديد السليمه لواقع امتنا ونحرر انفسنا من قادتنا 0 قبل فوات الاوان صحيح ان الديناميكيهالامريكيه اوقفها المشروع المقاوم فى العراق لكنه حفز غيرنا واستفاد من توقف العجله الامريكيه فى وحل العراق 0 وقادتنا كأن الامر لايعنيهم0

ناصر جميل العراق

 

* تعليق #2 (ارسل بواسطة بدر المرهون)

 

 

تعليقاً على كلام الدكتور/يوسف مكي:

 

أحب أن أقول أن عودة روسيا إلى الساحة الدولية واستعادة هيبتها الدولية ماهي إلى (انقلاب واضح) على مشروع عالم آحادي القطبية وقد تم هذا(الإنقلاب) بالسياسة الذكية للرئيس فلاديمير بوتين والذي أشاد به ميخائيل غورباتشوف رئيس الإتحاد السوفياتي سابقاً في وقف الزحف الإمبريالي الصهيوني الأمريكي بقيادة جورج بوش،وإظهار روسيا على أنها أحد صناع القرار،فكما فعلت في مشكلة إقليم كوسوفو فقد وقفت معارضة لانفصاله،فعلت كذلك مع إيران إذ أنها تساعد إيران في بناء مفاعل منوشهر النووي،وفعلت نفس الشيء لفنزويلا تشافيز،ووقفت أيضاً مع سوريا وتقديمها لسوريا أسلحة دفاعية،وفي النهاية أتمنى أن تنجح روسيا في وقف أمريكا عن مخططاتها الإنفصالية في جزيرة العرب،بدلاً منا نحن العرب النائمين على وساداتنا ولانفعل شيئاً سوى التحليل والتفسير ونحن واقفون نرى العالم يتقدم ونحن لانزال على جهلنا وعلى تخلفنا في إعادة الماضي ومجد الماضي والذي كنا فيه أبطالاً ولكننا الآن كالغنم الذي يضربه راعيه وقت ماشاء،ونحن نتمنى من ذوي العقول المنيرة من العرب أن يساعدوا العرب على التقدم إلى الأمام كباقي دول العالم وأن نسى الماضي لأن الماضي أصبح من التاريخ،ولا أتوقع أن بإمكاننا إعادة الماضي.

 

 

 

ابنك:بد المرهون

 

* تعليق #3 (ارسل بواسطة محفوظ ولد الجيلاني)

 

هذا التشخيص يعبر عن القراءة المنصفة والواعية للواقع العربي وللتفاعلات الدوليةالمرتبطة بالحالة العربية التي وصفتها بالراكدة وهي حقا كذلك ونحن في امس الحاجة الى الى المارد الروسي ليستفيق من غفوته فهو وحده القادر على التصدي للغطرسة الامريكيةالمجنونة والمهووسة بجنون العظمة والقوة غير ان التصعيد الروسي مؤخرا وان جاء مفاجئا وغير متوقع الا اننا ينبغي ان نقف بحذر تجاهه حتى نعرف الدوافع من ورائه فاستاذنا اطال الله بقاءه يعرف حجم الموازنتين العسكريتين للدولتين ولا سبيل الى المقارنة بين ميزانية البنتاغون ووزراة الدفاع الروسية اضافة الى ما تمتلكه امريكا من اساطيل دولية وتسهيلات في بحار ومضايق في المنطقةفضلا عن تحالفاتها مع دول العالم اجمع حتى انها حاليا تجري تمريناتها العسكرية في الشمال الافريقي مع دول عديدة فوق التراب المالي وفي عمق صحرائه الحارقة غير عابئة بالمخاطر المحدقة بجنودها في هذه الارض الملتهبة وكم يدرك الجميع ان البترول والحرب الوهمية على عدوها المستتر والذي خلقته بنفسها هذا الذي يسمى بالارهاب العالمي هما هدفها الاول وان كان النفط الافريقي ياتي في المرتبة الاولى في محاولة لمزاحمة الوجود الصيني الاصفر في هذه القارة البكر.

لا شك ان فلادمير بوتين لديه الارادة والعزيمة في ان تحتل روسيا مكانة دولية تليق بحجم الدب الروسي لكن الوسائل المادية والاقتصادية واللوجستية تبقى عناصر حاليا في كفة الامبراطورية الامريكية .

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

1 × 5 =


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.

د.يوسف مكي