مائة عام على سايكس بيكو: والأمة في حال ضياع
حدثان مهمان شهدت ذكراهما الساحة العربية: مرور مائة عام على سايكس- بيكو والأخر، ذكرى نكبة فلسطين عام 1948م. ومع صعوبة الفصل بين الحدثين، كون كلاهما شكلا إسفينا مسموما في خاصرة الأمن القومي العربي، ولأن هناك علاقة تكاملية بين الحدثين، فإن إطارهما الزمني، يجعل من الملح، تناولهما بشكل منفصل.
الحدث الأول، تفتيتي، جزأ مشرق الوطن العربي، مغيبا حقائق الجغرافيا والتاريخ، وعمل على إضعاف الأمة، وعدم تمكينها من الدخول في اقتصادات الأبعاد الكبيرة، وحال دون تفعيل قواها المحركة، أما الثاني، فشكل نقطة قطع حاد، بين مشرق الوطن العربي ومغربه، بإقامة وطن يهودي على أرض فلسطين، وعلى حساب سكانها الأصليين.
في القضية الفلسطينية، يصعب الفصل بين المشروعين المشؤومين: مشروع تقسيم الوطن العربي، ومشروع إقامة وطن قومي لليهود على أرض فلسطين. ذلك أنه لم يكن للمشروع الصهيوني، أن يوضع قيد التنفيذ، من دون الإفصاح عن وعد بلفور عام 1917. وبالمثل، لم يكن لوعد بلفور، أن يوضع قيد التطبيق، لو لم توضع فلسطين تحت الانتداب البريطاني. فقد كان ذلك الانتداب، عامل تسهيل وتسريع لهجرة اليهود، من كافة أصقاع العالم، إلى فلسطين، على حساب شعبها الذي جرى تشريده خارج دياره.
استندت فكرة اغتصاب فلسطين، على ادعاء صهيوني بأن الشعب اليهودي وجد باستمرار على أرضها. وأن حالة المنفى الدائم التي عاشها اليهود لم تضعف من رغبتهم للعودة إلى أرض أجدادهم. وهكذا كان المطلب الرئيسي للحركة الصهيونية هو تشكيل كيان قومي يهودي مستقل في فلسطين.
لقد تميزت فترة الحرب العالمية الأولى بمناورات بريطانية فاضحة. ففي عام 1916 تبادل السير هنري مكماهون، المعتمد البريطاني في مصر والشريف حسين بن علي، (شريف مكة) الرسائل. ونتج عن تلك المراسلات وعد بريطاني بتأييد استقلال المشرق العربي.
وفي الوقت الذي جرت فيه تلك المراسلات والاتفاقات بين بريطانيا والشريف حسين، أجرى البريطانيون اتفاقية سايكس- بيكو التي تم إبرامها في 16 مايو 1916، وبموجبها جرى تقاسم التركة العثمانية بالمشرق العربي، بين فرنسا وإنجلترا. وبالنسبة للصهاينة، فإنهم حصلوا في 2 نوفمبر 1917، على وعد بلفور. وعلى الرغم من أن ذلك الوعد شكل تناقضا واضحا للنتائج التي تمخضت عنها مراسلات مكماهون والشريف حسين. إلا أن اتفاقية سايكس- بيكو أعطيت الأولوية في التنفيذ بعد نهاية الحرب العالمية الأولى مباشرة. وقد منحت هذه الاتفاقية المشروعية الدولية عندما صادقت عصبة الأمم في 24 يوليو عام 1922 على الانتداب البريطاني لفلسطين وشرق الأردن، والذي عنى في نتائجه تمكين بريطانيا من الوفاء بوعدها تجاه الصهاينة..
وكان من نتائج وعد بلفور مضاعفة الهجرة اليهودية في فلسطين. وكلما ازدادت أعداد المهاجرين اليهود، كلما تفاقــمت الأزمة بين الفلسطينيين والمهاجرين الجدد، حتى تصاعد هذا التوتر إلى عنف وانفجارات في نهاية الثلاثينات.
لم يكن التوازن في الصراع لصالح الفلسطينيين، ذلك أنهم لم يكونوا مفتقدين للتنظيم والقيادة المقتدرة فقط، ولكنهم كانوا ممزقين إلى عشائر ومجاميع صغيرة. ولذلك فإن غياب التنظيم ووحدة العمل جعل تحقيق الهدف الفلسطيني في الاستقلال أمرا غير ممكن التحقق في مثل تلك الظروف. وكانت نتيجة ذلك أن كثيرا من الاحتجاجات والانتفاضات الفلسطينية ضد البريطانيين وحركة الهجرة اليهودية في نهاية الثلاثينات انتهت بنتائج مأساوية.
الخطوة الرئيسية باتجاه تنفيذ الأهداف الصهيونية تحققت في نهاية الحرب العالمية الثانية. ذلك أن الإرهاق الذي عانت منه الحكومة البريطانية خلال فترة الحرب، والأزمة الاقتصادية التي تعرضت لها، جعلتها تتهيأ للرحيل عن فلسطين.
في عام 1947، عقدت بريطانيا النية على التخلي عن انتدابها لفلسطين، طلبت من الأمم المتحدة معالجة الصراع اليهودي- العربي في فلسطين. وفي 3 سبتمبر 1947، تبنت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارها رقم 181 المتعلق بمستقبل القضية الفلسطينية. ونص القرار بتقسيم فلسطين إلى ثلاثة أقسام: الشطران الأوليان يقسمان بالتساوي بين الفلسطينيين الذين كانوا يشكلون آنذاك 70% من التعداد الكلي للسكان واليهود الذين لا يشكلون أكثر من 30% من سكان فلسطين، معظمهم لا يحملون الجنسية الفلسطينية. أما الشطر الثالث فيضم مدينة القدس، وستجري إدارته بنظام دولي. وقد جاء نص القرار كالتالي: “دولتين مستقلتين عربية ويهودية ونظام دولي خاص بمدينة القدس سيبرز إلى الوجود في فلسطين بعد شهرين من إتمام مغادرة القوات المسلحة لسلطة الانتداب”.
رفض العرب، والفلسطينيون بشكل خاص، هذا القرار. حيث لم يأخذ مخطط التقسيم بعين الاعتبار نسبة التعداد السكاني للشعب الفلسطيني. ولأن الفلسطينيين في غالبيتهم اعتبروا المهاجرين الجدد من اليهود إلى فلسطين في حكم الأجانب الذين لا يملكون الحق في الإقامة الدائمة على هذه الأرض.
وفي منتصف مايو 1948، أعلن اليهود من جانب واحد قيام “اسرائيل”. واندلعت الحرب مباشرة بين العرب والدولة الصهيونية. انتهت تلك الحرب بهزيمة للجيوش العربية. وكانت نكبة واجهها الفلسطينيون والعرب. ونتج عنها تشرد معظم الفلسطينيين عن وطنهم وبقاء أقلية منهم تحت وطأة الاحتلال الاسرائيلي.
ومنذ النكبة أصبح الفلسطينيون موزعون في الوطن العربي، يملؤهم إحساس بوجود عدو معلن هو الدولة الصهيونية التي اغتصبت أرضهم، وعدو غير معلن يتمثل في غياب أية استراتيجية عربية عملية لتحرير فلسطين. ومع أن الفلسطينيين بدأوا مقاومتهم المعاصرة، في مطلع عام 1965م، وتم الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني، فإن تحقيق حلم التحرير لا يزال بعيد المنال. ولم يكن له أن يتحول إلى واقع، في ظل غياب الاستراتيجية لاستعادة فلسطين. وفي ظل انقسام الفلسطينيين أنفسهم، بين مناهج فاشلة ومواقف عدمية.
وأولى الخطوات الصحيحة على طريق تصليب الكفاح الفلسطيني، هو تحقيق المصالحة الفلسطينية، على قاعدة التمسك بحق الشعب الفلسطيني في العودة إلى وطنه، وقيام دولته المستقلة فوق ترابه الوطني، ودعم الانتفاضة الفلسطينية، واعتماد هذه الخطوات بوصلة لتحقيق الأهداف المشروعة للشعب الفلسطيني.