مؤتمر فتح وحق العودة
قبل ثلاثة أعوام من هذا التاريخ، وعلى هامش حلقة نقاشية دعا لها مركز الدراسات الإستراتيجية بالجامعة الأردنية في عمان، لقياس موقف الرأي العام العربي من موضوع الوحدة العربية، التقيت بأحد العناصر المقربة من القيادات الفتحاوية. آنذاك، كان السجال، في الصحافة العربية، وفي الفضائيات يدور حول وثيقة كوبنهاجن، التي وقعها مجموعة من المثقفين العرب والفلسطينيين، وبعض من “المثقفين الإسرائيليين”. وقد أثارت تلك الوثيقة جدلا واسعا، حيث اعتبر ما ورد فيها تفريطا بالحقوق الفلسطينية، وبشكل خاص ما يتعلق بحق العودة للاجئين إلى ديارهم.
كان المثقف الفتحاوي المذكور متحمسا جدا، للأطروحات التي وردت في بيان كوبنهاجن. وكان يحاول إيجاد التنظيرات القانونية لتبرير تأييده التفريط بحق العودة. المنطق الذي طرحه، بدا لأول وهلة، رغم غرابته متماسكا. وكانت خلاصته، أن القبول بوجود دولتين على أرض فلسطين التاريخية: دولة يهودية على الأراضي التي احتلها الصهاينة عام 1948، ودولة فلسطينية مستقلة على الأراضي التي احتلت عام 1967، يعني في بديهياته، وجود دولتين مستقلتين على أرض فلسطين، وأن هاتين الدولتين تتمتعان بكافة الحقوق القانونية والسيادية. وينسحب عليهما، ما ينسحب على الدول الأخرى من حقوق وواجبات. وأن من ضمن تلك الحقوق سيادة الدولة على أراضيها، وعدم جواز التدخل في شؤونها الداخلية.
من هذه المقدمة، يقود الجدل، إلى أن موضوع اللاجئين الذين طردوا عنوة من أراضيهم التي احتلت عام 1948، هو موضوع سيادي يخص الكيان الغاصب وحده، وإن السلطة الفلسطينية لا يمكنها فرض حق العودة على الصهاينة، لأن ذلك معناه التدخل في شأن سيادي صهيوني. والاقتراح الذكي الذي يقدمه زميلنا، هو أن تتحول القضية برمتها إلى قضية أشخاص سلبت حقوقهم، وعليهم التقدم بمظلمتهم إلى الهيئات الدولية، والجهات القانونية في الكيان الغاصب والمطالبة بحقوقهم. وأن بإمكان السلطة الفلسطينية، في هذه الحالة، أن تقدم لهم الدعم في هذا الاتجاه، ولكن بشكل غير مباشر، من خلال نصرة مطالبهم في المحافل القانونية والدولية، ومساعدتهم على اختيار قانونيين أكفاء لتولي دعاواهم. وما عدا ذلك يعتبر خرقا للقانون الدولي، وتعديا على سيادة دولة معترف بها، عضو في الأمم المتحدة، ومرحب بها من قبل هيئات المجتمع الدولي.
تكشف لاحقا أن هذا الموقف لم يكن مقتصرا على زميلنا الذي شاركنا في الحلقة النقاشية، بل يتبناه الآن في العلن قادة فتح، ويقف معهم بشكل صريح أحيانا، وخجول في حالات كثيرة بعض القيادات العربية. وهو بالتأكيد منطق مهزوم ومأزوم في آن معا.
منطق مهزوم، لأنه يعكس العجز العربي عن إدارة الصراع، بكفاءة وفاعلية مع العدو الصهيوني. ومنطق مأزوم لأنه يفتقر إلى أبسط أبجديات القراءة الصحيحة لطبيعة الصراع. وهو بالتأكيد يعكس حالة الانفصام المر، بين ادعاء وحدانية تمثيل الشعب الفلسطيني، حيثما وأينما تواجد من جهة، والتفريط بحقوق هذا الشعب، واقتصار المفاوضات على جزء يسير من أرض فلسطين وشعبها، من جهة أخرى.
ربما كان هذا المنطق مفهوما، وإن يكن غير مقبول، لو أن زعامات فلسطينية تقليدية، معزولة عن الكفاح الفلسطيني، في الداخل والخارج، هي التي تقود المفاوضات مع الصهاينة، شرط أن تعلن بشكل واضح وصريح فك ارتباطها بالقضية الفلسطينية. في هذه الحالة، سنكون أمام شريحة صغيرة متشرنقة، وضيقة في أفقها تتفاوض مع العدو على قيام دويلة في الضفة والقطاع، لتكن تسميتها أي شيء، إلا أن تكون فلسطينية، ومعبرة تعبيرا حقيقيا عن إرادة وتطلعات الشعب الفلسطيني. أما أن ينبري لقبول التنازل تلو التنازل، وتقديم التعليلات له، طليعة كفاح الشعب الفلسطيني، وهيئة استمدت حضورها التاريخي من قيادتها لنضال هذا الشعب، لعقود طويلة، فتلك نازلة النوازل، بكل المقاييس.
المأزق الذي وضعت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية نفسها فيه، منذ توقيعها لاتفاقيات أوسلو، حتى تاريخه، لا يمكن حسمه إلا بفك الارتباط بين السلطة، كجهة، تتحمل إدارة الشؤون اليومية وتلبية حاجات المواطنين في القطاع وغزة، بعد إعادة اللحمة بينهما، وبين منظمة التحرير، باعتبارها الجهة المخولة بوحدانية تمثيل الشعب الفلسطيني، وقيادة نضاله وطليعة كفاحه. وحدانية التمثيل هذه، تعني قيادة شعب فلسطين بأسره، وليس فقط جزءً منه، نحو تحقيق أهدافه في الاستقلال والحرية وحق تقرير المصير.
إن إدراك الكيان الصهيوني، أن تصفية القضية الفلسطينية، أمر غير ممكن ما لم يتم إخضاع قيادات حركة المقاومة بمختلف فصائلها ومكوناتها لأجنداته، هو الذي دفع به في السابق لقبول التفاوض مع المنظمة والتوصل معها إلى توقيع أوسلو. وهو بالذات ما دفع بالكيان الصهيوني إلى تشجيع قيادة السلطة على عقد مؤتمر حركة فتح، لأول مرة، منذ تأسيسها على الأراضي الفلسطينية، بعد أن كانت المؤتمرات تعقد سابقا في المنافي. وهو ما يفسر عدم تلكؤ العدو في منح تأشيرات الدخول لكوادر فتح التي قدمت من الخارج لحضور مؤتمر بيت لحم. فليس يكفي أن تقبل السلطة الفلسطينية بالتفريط بحق العودة، ويبقى هذا الحق مطلبا قائما ومستمرا، وفي قائمة أهداف الثورة الفلسطينية.
لقد كان عقد مؤتمر بيت لحم، تحت ضغط لحظة تاريخية، تعاني منها قيادة السلطة، قبل الدخول في مفاوضات الحل النهائي، وكان الهدف منها، كما أوضحنا في الحديث السابق، هو تحقيق اندماج في الموقف الاستراتيجي، بين السلطة القائمة في رام الله، وبين حركة فتح، على قاعدة تبعية الثورة للسلطة، وليس العكس.
أكد خطاب الرئيس “أبو مازن”، ذلك حين أشار إلى أن السلطة لن تفرط بحق اللاجئين الفلسطينيين، إما في العودة أو التعويض. والكلام رغم مخاتلته، واضح وصريح. حق العودة، كما ورد في الخطاب آنف الذكر، يعني عودة فلسطينيو الضفة والقطاع إلى مناطق السلطة، أما حضوريا، من خلال الانتقال فعليا إلى الداخل، أو اعتباريا، من خلال حملهم لوثائق السلطة الفلسطينية، من هويات وجوازات سفر وما إلى ذلك. أما اللاجئين الذين شردوا من ديارهم، من حيفا ويافا والناصرة ودير ياسين، وبقية المناطق التي احتلها الصهاينة، عام 1948، فإن المطروح هو التعويض، وحين يكون التعويض هو البديل عن الوطن، فلن يكون مهما عظم، إلا بأبخس الأثمان. وسوف يتم تأسيس مؤتمر آخر، على غرار مؤتمر الدول المانحة، مهمته، التبرع بالتعويضات للاجئين الفلسطينيين. ولن يكون مستبعدا أن يطالب الكيان الغاصب بحصة في هذه التعويضات، يستكمل بواسطتها بناء المستوطنات والجدران العازلة في الضفة الغربية وقطاع غزة.
حق الفلسطينيين في ديارهم، هو حق تاريخي، لا يسقطه التقادم، ولا يملك كائنا من كان حق التنازل عنه. وهو حق لا يملكه الجيل الحاضر فقط، بل هو ملك للأجيال القادمة، كما هو ملك للأمة بأسرها. ووحدانية تمثيل الشعب الفلسطيني، ليست توقيعا على بياض، ولا تعني قيادة هذا الشعب إلى طريق ناكس، بل السير بهذا الشعب نحو الحرية والانعتاق، والتقدم بمبدأ حق تقرير المصير إلى أمام.
°±v±°
yousifsite2020@gmail.com