ليكن “يومنا الوطني” يوماً للمستقبل وللأمل
في تاريخ أية أمة من الأمم أيام معدودة تمثل محطات رئيسية في صياغة هويتها، وتحديد ملامح شخصيتها. يتشكل فيها الوطن النموذج، لينطلق بعد ذلك في مسيرة تاريخية طويلة، ممتدة، متحركا في فضاءات مفتوحة مع الأمم والمجتمعات الأخرى، متعاملا وفق معطيات إنسانية وأخلاقية، وأيضا من خلال وعي لمفهوم الضرورة الحضارية، لكنه في كل الأحوال لا يغفل جذوره.
وإذا كان التاريخ الإنساني محطات متصلة، فإن لكل مرحلة خصوصيتها ومتطلباتها، التي تتحكم في تشكيل بصماتها جملة من الظروف، ذاتية ومحيطة ووافدة، وأيضا تفاعل إنساني مع متغيرات سياسية واقتصادية وعلمية عالمية.
من هذه المقدمة يمكننا القول إن اليوم الوطني، الذي أطل علينا، في هذا العام يكتسب جدة وخصوصية. وإذا كان من حقنا أن نحتفي به كيوم للوحدة، كما جرت العادة، فإن من حقنا أيضا أن نجعل منه يوما للأمل والتنمية والبناء والتقدم في كل المضامير، بما في ذلك مضامير لتقييم والمراجعة والدفع بعملية الإصلاح في الهياكل الإدارية والسياسية، بما يتجانس وشروط التعايش مع المتغيرات الدولية والمحلية والحوادث التي تعصف بالمنطقة، وتهدد أمنها واستقرارها، لنجعل من هذا الوطن العزيز واحة للأمن والاستقرار.. وخميلة جميلة يحلق فيها الصغار فرحين، مستمتعين في مرحهم بزقزقة العصافير، دون خوف أو وجل.. معتزين بانتماء يوفر لهم المدارس والملاعب والمستقبل الواعد.
خصوصية “يومنا الوطني” أنه يأتي في ظل متغيرات كثيرة: فهو أولا يأتي بعد فترة وجيزة من تسلم خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز رسميا لسدة الحكم، وتعيين الأمير سلطان بن عبدالعزيز وليا للعهد ونائبا أول لرئاسة مجلس الوزراء. وإنسانيا، يمكن القول إن لكل قائد إيقاعا خاصا وبصمة خاصة، وأداء خاصا، وأن ذلك هو ما يعطي للتواصل حيويته وقدرته على الاستمرار. ويثق المواطن بأن ذلك سوف ينعكس إيجابيا وبشكل كبير، على مستوى النهضة والتطور بالبلاد. وقد جاءت جملة من الإجراءات الإدارية والمراسيم الملكية لتعزز هذا الاعتقاد.
أما الخصوصية الأخرى، فإنه يأتي في ظل أداء اقتصادي متميز، تسبب فيه الارتفاع الكبير في أسعار النفط، المصدر الأول للدخل بالمملكة. وقد نتج عن هذا التطور تراجع دراماتيكي ملحوظ في مديونية الدولة. ونأمل ألا يكون بعيدا اليوم الذي تصبح فيه هذه المديونية خبرا من الماضي. وقد عكس ازدياد الموارد المالية للمملكة نفسه على النشاطات الاستثمارية في الأسهم والعقار، وعلى الحركة المتسارعة في صيانة واستكمال البنية التحتية في معظم مدن وربوع البلاد.
وهناك أيضا، توقع انضمام المملكة قريبا إلى منظمة التجارة العالمية. وهو انضمام من شأنه أن يحدث تغيرات بديهية، وجوهرية في البنية الهيكلية للاقتصاد، وأيضا سوف يكون لذلك دور في سن قوانين وتشريعات جديدة، وفي بروز هياكل اجتماعية وسياسية لم تكن موجودة بالفعل من أجل أن نتجانس مع شروط الانضمام لهذه المنظمة، ولكي نكون جزءا فاعلا في حركة إنسانية عالمية فوارة ومتحركة، وحتى يمكننا التعامل بجدارة مع عالم لا يحترم لغة الضعفاء، وليس فيه مكان إلا للقادرين على صناعة تاريخهم بمهارة وعزم.
ولعل تمكن القيادة السياسية، بمساندة رجال الأمن الأشاوس من القضاء على الفئة الضالة، والتراجع الكبير الملحوظ في عمليات الإرهاب خلال هذا العام هو أهم إنجاز حققناه. فليس هناك ما هو أثمن من الحفاظ على وحدة الوطن والعمل على ضمان أمنه واستقراره.
لكن لكل خصوصية إيجابية مما أشرناه، وجها آخر.. وجها ينبغي أن نتنبه له، وأن نكون حذرين ومتيقظين، لكي نضمن المستقبل… ولكي يستمر الأمل. فحين نتحدث عن تحسن الأداء الاقتصادي بفعل ارتفاع أسعار النفط، فعلينا أن نتذكر أننا مررنا بسنين عجاف، اعتمدنا فيها وحدنا على قدراتنا الذاتية، وكان التمويل لمشروعاتنا واحتياجاتنا، في معظم الحالات، محليا، من مؤسسات وبنوك محلية. ويجب أن نواجه حقيقة أن المصدر الرئيسي للدخل الوطني في بلادنا هو النفط، والنفط هو مادة استخراجية قابلة للنضوب. وأن التنمية الحقيقية هي التي تعتمد على القدرة الذاتية المحركة في الإنتاج. النفط هو أيضا سلعة قدرتنا على التحكم في أسعارها وكمية استخراجها محدودة، رغم كونه سلعة استراتيجية.
إن قانون العرض والطلب محكوم بحاجة أسواق عالمية ليست لنا القدرة على التحكم فيها. وكنا بحكم قوانين السوق، نبيع البرميل منه قبل عامين بأسعار بخسة، اقتربت كثيرا من حد سعر التكلفة. وتغيرت حاجة السوق، دون أن يكون لنا دور في ذلك. واستجبنا بفعالية واقتدار لمتطلبات هذه المرحلة. وهو أمر جيد، ولا غبار عليه، لكن ينبغي على عيننا الأخرى أن تكون يقظة ومتنبهة، وإلا وقعنا فيما لا تحمد عقباه. يجب أن نفكر الآن وليس في الغد، بمخارج جديدة للتنمية… مخارج لإيجاد بدائل عن النفط، ومخارج أخرى للاستثمار، وأن نسترشد بالقول المأثور: “لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين”.
من غير المنطقي أن تهدر الأموال في مضاربات أسواق الأسهم، وفي تضخيم أسعار العقارات. إن احتواء حالة التضخم، واستثمار الأموال فيما لا طائل منه، يمكن معالجتها بالتسريع في عمليات الخصخصة، وإفساح المجال لصغار المساهمين بالدخول في السوق، وأن يتضاعف عدد الشركات المطروحة في سوق الأسهم عدة مرات. إن ذلك سوف يمكن من وجود أموال ضخمة يمكن الزج بها في بناء مشاريع تنموية جديدة، لدعم اقتصاد البلاد وتمتينه، والمساعدة على إيجاد مصادر بديلة للنفط. وهي أيضا أحد العوامل الإيجابية لتجنب وقوع انهيارات كبيرة في أسواق المضاربات.
وحين نتحدث عن انضمامنا لمنظمة التجارة العالمية، فهو بلا شك شأن إيجابي، حين نتعامل معه بوعي.. حين ندرك مكامن قوتنا ومكامن ضعفنا. أين يمكن أن ننافس بجدارة، وفي أي موقع نفتقد القدرة على التنافس. وأولى الحقائق التي ينبغي أن تكون حاضرة هي أننا في عصر تكتلات تجارية واقتصادية كبرى، وأننا لا يمكننا أن نفعل بالسوق، وأن تكون لدينا قدرة تنافسية في الأسواق العالمية، ما لم تتحقق حالات اندماج اقتصادي كبرى، في كل المجالات. فاقتصاد الأبعاد الكبيرة هو وحده الذي يستطيع الصمود والمقاومة أمام قوة اقتصادية عالمية هائلة. لا بد أن نستعد، منذ الآن لليوم الذي تكون فيه بلادنا عضوا كاملا في منظمة التجارة. وأن يحدث منذ الآن تطوير لبنى وأداء البنوك، وقطاع الخدمات ومختلف الأنشطة، وأن يجري التفكير جديا في تحقيق عمليات اندماج واسعة في مؤسساتنا الاقتصادية.
ومن جهة أخرى، فسوف يكون لهذا الانضمام تأثيرات ثقافية وسياسية وبنيوية، لا بد أن نكون مستعدين لها، دون تأجيل أو تسويف.
وبقي أن نشير إلى الانتصار على الفئة الضالة، وذلك إنجاز كبير، لا مراء في ذلك، وهو أمر يستحق الثناء والتقدير، لكل المسؤولين الذين سهروا ليجعلوا ليلنا أكثر أمنا، ولرجال الأمن الشجعان، وبشكل خاص أولئك الذين قدموا أرواحهم فداء لوحدة الوطن وحماية استقراره.. إليهم كل العرفان والتقدير. وقد أدوا دورهم بشجاعة وقوة، وبقي علينا نحن، أبناء هذا الوطن أن نؤدي دورنا. وهو دور ينبغي الاعتراف بأننا قد قصرنا كثيرا في أدائه.
ينبغي في هذا الصدد أن نتحلى بشجاعة مع النفس. وأن نقضي إلى غير رجعة على حالة الانفصام التي تعشعش في أعماقنا. لا يمكن محاربة الإرهاب على الأرض بالسلاح فقط، فذلك لن يقضي على مكامن تفريخه التي تعشعش في الوعي واللاوعي، للأسف في أعماق أعماقنا. ينبغي القضاء على حالة الانفصام بين رفض الإرهاب كممارسة وقبوله كفكر. فكر التكفير والكراهية والفرقة الناجية والتحشيد الطائفي والعداء للآخر، وتسفيه العلم، وسيادة الخزعبلات والأسطورة هو الذي يغذي فكر الإرهاب، ويمنحه القوة والحصانة. وما لم تفتح النوافذ ليدخل منها الهواء الطلق، وتنطلق أبواب الحوار على مصاريعها، ويشجع على الاجتهاد وإعمال الفكر، وتسود التعددية، ويحترم الرأي الآخر، ونمضي قدما، دون تردد أو تلكؤ في استكمال مؤسسات المجتمع المدني، واستنهاض أبناء الوطن للمضي قدما في بنائه.. اعتمادا على العلم الحق والقول الحق، فإن إمكانية تهديد أمن بلادنا واستقرارها سوف تبقى قائمة.
اليوم الوطني، ملحمة تاريخية عزيزة، خلقت لنا وطنا كريما شامخا ممتدا من البحر إلى البحر، لنجعل من هذا اليوم العطر ليس فقط يوما للوحدة الوطنية، ولكن أيضا يوما للأمل وبناء المستقبل الواعد.
yousifsite2020@gmail.com
د. يوسف مكي
تاريخ الماده:- 2005-09-28