ليبيا الجديدة…. مرحلة بناء الدولة
انتهت مرحلة القذافي، وتنفس شعب ليبيا الصعداء، بعد أكثر من أربعة عقود من حكم التسلط والفساد والاستبداد. تمكن الليبيون بعد تضحيات جسيمة، في صراع هو الأعنف بين ما شهدته البلدان العربية التي مر بها موسم “الربيع العربي”، من تحقيق الخطوة الأولى على طريق طويل شاق وصعب. وأخطر ما في هذه التجربة،
هو امتزاج مطالبة الشعب بالحرية والعدالة، بتدخلات الناتو، مزودا بتفويض أممي صادر عن مجلس الأمن الدولي تحت ذريعة حماية المدنيين، لتضمخ الأهداف النبيلة مضمخا بالدماء الزكية التي أسالتها كتائب العقيد وحلف الناتو على السواء، ولنوضع مجددا بين متقابلين أحلاهما مر: إما القبول بالاستبداد المحلي أو الخضوع لهيمنة قوى الغطرسة الدولية.
بطرد كتائب القذافي، من العاصمة طرابلس، وملاحقة فلولها بالمدن الأخرى، تقترب ساعة الحسم، ولنشهد نهاية مرحلة الجهاد الأصغر، المتمثلة في إسقاط قلاع الاستبداد، لتبدأ مرحلة أخرى أكثر صعوبة وتشابكا وتعقيدا، سيكون على الليبيين أن يعبروها بسلام، لكي يتمكنوا من ممارسة دورهم مع أشقائهم العرب في الدفع بمسيرة النهضة والتنمية.
ومن المؤكد، إن المهام الذي ينبغي أن يضطلع بها الليبيون في هذا المنعطف التاريخي من حياتهم كثيرة، في مقدمتها التعامل مع الآثار التي خلفتها الحرب. فهناك آلاف الجرحى والثكالى والأرامل والأيتام، وجروح غائرة في نفوس الليبيين، سببها احترابهم واختلاف بعضهم حول مشروعية النظام الذي قبر، وهي جروح بحاجة لأن تندمل. وهناك ضرورة عاجلة لرفع ركام الخراب وإعادة تعمير ما دمر في القصف المتبادل بين الناتو وكتائب العقيد. وليست أقل من ذلك إلحاحا، مهمة تشغيل المستشفيات وتزويدها بما تحتاجه من القوى البشرية المتخصصة والكفاءات والأدوية اللازمة لمعالجة الجرحى والمعاقين. وهناك أيضا، صيانة البنية التحتية للمدن الرئيسية، التي عانت هي الأخرى من نتائج الحرب.
وجميع هذه المهمات تتطلب أموالا طائلة، لا قبل لشعب ليبيا الذي عاش تحت وطأة الحرب والحصار بتلبيتها، بما يتطلب تضافر جهود الأشقاء العرب للمساعدة على تأمينها.
يضاف إلى ذلك، يتوقع كثيرون أن تؤدى الطريقة التي تم بها إسقاط نظام القذافي، عن طريق حلف الناتو إلى تكبيل ليبيا بقيود جديدة، ولن يكون سهلا التخلص من هذه القيود، خاصة وأن الناتو قد تمكن، خلال الشهور التي مضت من تحقيق اختراقات رئيسية في صفوف المعارضة، التي تصدت للنظام السابق. كما أن الانفلات الأمني الذي يسود معظم أنحاء ليبيا، وانهيار مؤسسات الجيش والشرطة التي كانت قائمة من قبل، ربما يكون مدعاة للدعوة لتشكيل قوة حفظ سلام دولية، بقرار أممي جديد، بما يتيح لقوى الهيمنة استثمار هذه المستجدات، لفرض تبعية البلاد لسياساتها.
إن ذلك، يفرض على الدول العربية مجتمعة، مساعدة ليبيا في حل هذه الإشكالات. وربما يشكل اقتراح وجود قوات عربية في ليبيا، لحفظ الأمن والمساعدة على عودة الاستقرار حلا معقولا، للخروج من النفق، لتأكيد مبدأ وحدة الأمن القومي العربي الجماعي، وحماية بلد عربي من شر المتربصين.
وإذا ما انتقلنا من التعامل مع الأوضاع الطارئة التي تمر بها ليبيا، إلى مقابلة استحقاقات الشعب الليبي، وتنفيذ أجندة الإصلاح السياسي، التي هي مبرر اندلاع الحركة الاحتجاجية التي أسهمت في إسقاط نظام العقيد, فإن المهمة الأولى في هذا السياق، هي إعادة بناء مؤسسات الدولة، بكافة تفرعاتها وتشعباتها. وبخاصة القضاء والجيش والشرطة.
والخطوة الأولى في هذا الصدد، هي حل الميليشيات التي تأسست مع بداية الحركة الاحتجاجية، والتي شكلت العمود الفقري المحلي في المواجهة مع كتائب القذافي. هذه الميليشيات تشكلت، في ظروف صعبة للغاية، وفرضت تشكيلها طبيعة اللحظة. وقد اتسمت بغياب القيادة السياسية الموحدة للمعارضة الليبية. وجاء تشكيلها مرتبط بمجموعة من الاعتبارات الفئوية والمناطقية والولاءات القبلية والسياسية، واتخذت طابع الفزعة، وضمت عناصر إسلامية متطرفة. وقد حان الوقت لحل هذه الميليشيات ودمجها في المؤسسة العسكرية الجديدة التي ينبغي العمل بأقصى سرعة على تشكيلها.
بالتزامن مع إعادة تشكيل مؤسستي الجيش والشرطة، ينبغي التسريع في إعادة تدشين مؤسسة القضاء. ومن المهم الاعتراف باستقلاليتها عن بقية مؤسسات الدولة. إن هذه الخطوة تمثل بداية صحيحة على طريق تطبيق سيادة دولة العدل والقانون. وأهمية وجودها في هذه المرحلة، يكمن في تجنيب البلاد الفوضى وروح الانتقام والثأر من أتباع النظام السابق. إن القضاء المستقل هو وحده الذي بإمكان أن يكون ميزانا للعدل، وهو وحده الذي يجنب البلاد غوائل الأحقاد، ويعطي لكل حق حقه.
في الأيام الأخيرة صدرت تصريحات أمريكية، تدعو المجلس الانتقالي الليبي للاستفادة من تجربة العملية السياسية التي هندسها ونفذها المندوب السامي الأمريكي، بول برايمرز في العراق. والواقع فإن اقتفاء هذه التجربة هو أسوأ ما يمكن أن تقدم عليه قيادة ليبيا الجديدة.
فالتحول نحو التعددية والديمقراطية، ومغادرة نظام التسلط والاستبداد وبناء ليبيا الجديدة يقتضي تعزيز مفهوم المواطنة، المستندة على الاعتراف بالندية والتكافؤ والمساواة، والنأي عن القسمة والمحاصصة بين العشائر والقبائل. ينبغي الاستناد على العلاقات التعاقدية بين البناء الفوقي والمجتمع، وأن يأخذ الفرد مكانه في المجتمع من خلال كفاءته وأدائه وليس من جاهه وحسبه والقبيلة أو العشيرة التي ينتمي إليها.
إن قيام نظام سياسي على أسس المحاصصة سيطعن في الصميم وحدة ليبيا، وسيكون مقدمة للتجزئة والتفتيت. ذلك لا يعني التمسك بالمركزية التي سادت في ليبيا منذ حصلت على استقلالها مع مطالع الخمسينيات من القرن المنصرم، فهذه المركزية قد أسهمت بشكل كبير في تغول البيروقراطية وتعطيل مصالح المواطنين. لكن وجود نظام يعمل على التخفيف من وطأة مركزية الدولة، وإطلاق المبادرات والنص على وجود صلاحيات لكل محافظة لإدارة شأنها الخاص هو أمر مختلف تماما، عن مبدأ القسمة.
ولن يكون ممكنا الانتقال السلمي نحو دولة التعددية والحرية وتداول السلطة، والعدل والقانون، دون إتاحة الفرص لحرية تدشين الأحزاب والمؤسسات السياسية وبقية مؤسسات المجتمع المدني، واحترام الرأي والرأي الآخر. إن تحقيق ذلك يتطلب صياغة دستور جديد يأخذ بعين الاعتبار التحولات الكونية السياسية التي شهدها عصرنا، يجري إقراره من قبل الشعب الليبي عن طريق الاقتراع. لتأسس بعد ذلك المجالس التمثيلية والنيابية، والمؤسسات المعبرة عن حاجة هذا الشعب وتطلعاته في الحرية والكرامة.
yousifmakki@yahoo.com