لماذا لا يتحول الإصلاح السياسي إلى شأن عربي؟!

0 390

بعد ما يقترب من الستة عقود على تأسيس جامعة الدول العربية، وعجز هذه المؤسسة عن الإيفاء بما نص عليه ميثاقها ومعاهداتها وبروتوكولاتها، من حق المواطن العربي أن يتساءل عن أسباب فشل العمل العربي المشترك . لمذا فشلنا نحن ونجح الآخرون؟ لقد تأسست بعد الإعلان عن قيام جامعة الدول العربية عشرات المنظمات الدولية والإقليمية، تمكنت من تحقيق جزء كبير من الأهداف التي تأسست من أجلها،

 بينما تعثرت جامعة الدول العربية، وبدلاً من التقدم أصبح بيان خط سير العمل العربي المشترك يتجه دائماً إلى الأسفل . سؤال لا يكفي في الإجابة عنه تحميل الأنظمة العربية مسؤولية العجز عن الارتقاء لمستوى المسؤولية، بل ينبغي أن يتجه إلى ما هو أعمق من ذلك بكثير: لماذا عجزوا ونجح الآخرون؟

يحضر هذا السؤال وسط ربيع عربي فرحنا به جميعاً، بدأت تباشيره قبل ثلاثة أشهر . لم يكن الفرح مرتبطاً بما أمكن تحقيقه من إنجازات، فذلك أمامه مراحل طويلة ومهمات شاقة كثيرة، بل بما أحدثه هذا الربيع من نفخ روح الثورة والكبرياء والتمرد في واقعنا العربي . لقد عبر الشعب برزخ الاستكانة والمهانة والخوف والقبول بالأمر الواقع، وتطهرت النفوس من أدران الجمود والتكلس، وذلك وحده رصيد ضخم، إن نحن تمكنا من استثماره في صناعة فجر عربي واعد .

لكن مهرجان الفرح ينبغي، في كل الأحوال، ألا يحجب عن مخيالنا حقائق جوهرية أخرى، أهمها أن ما تحقق على أرض الواقع من منجز، باستثناء تطهيره للنفس، لم يتعد حتى هذه اللحظة تغييرات جزئية في رموز البنية الفوقية، لا تجعلنا نصنف الثورات العربية ضمن قائمة التحولات التاريخية الإنسانية الكبرى . فهذه التحولات ليست كما أثبتتها التجارب التاريخية مجرد انتقال في مراكز المصالح، بل تغيير في البنى والتقاليد والهياكل، بحيث تتجانس جميعها مع مشاريع التغيير .

الحقيقة الأخرى، أن معظم المثقفين والكتاب العرب نظروا إلى الربيع العربي بما يأملونه ويحلمون به، وفي ضوء ما يطفو على السطح، وليس من خلال القراءة الدقيقة للواقع العربي . لقد تم النظر إلى هذا الواقع العربي بمجمله ككتلة هلامية، تحركها عواصف التغيير ضمن أنساق وتراتبية محددة، وفي أحسن الحالات، تم النظر إلى الوطن العربي، باعتباره نسقاً متجانساً، يتحول بذات الكيفية والإيقاع، الذي حدث في تونس ومصر، وهو أمر لا يتسق مع الحقائق العلمية أو التجربة التاريخية . فمثل هذه الرؤية تغيب أولاً حقيقة أن التاريخ لا يعيد نفسه . ومن جهة ثانية، تغيب أهم قوانين الجدل، التي تربط بين الوحدة والتضاد وتأثير الفعل التراكمي والنضالي في صناعة التاريخ .

وقد أثبتت تجربتا ليبيا واليمن ذلك، حيث تحول ربيع، إلى خريف معتم، تتجه معه الثورة في ليبيا إلى تشطير هذا البلد العربي، وإلى ما يشبه الحرب الأهلية بين الثوار وكتائب العقيد . وقد تعقدت الأمور بصورة أكثر بعد التدخل الدولي، بفرض الحظر الجوي ليصبح المدنيون بين المطرقة والسندان، وليتحولوا إلى ضحايا لنيران العقيد، أو النيران “الصديقة” .

في اليمن العزيز، تعثر الربيع العربي، وهناك مخاطر تشظي وتفكك كيانية الدولة، ما لم يرتق الجميع فوق النزعات الفئوية والمصالح الضيقة، ويجري العمل على تغليب الوحدة الوطنية . في أماكن أخرى من الوطن العربي، يخشى أن تؤدي حالة الاحتراب إلى التسعير الطائفي، وتفتيت اللحمة المجتمعية، بين أبناء الوطن الواحد .

ما علاقة ذلك بالعنوان الذي تصدر هذا الحديث: لماذا لا يتحول الاصلاح السياسي إلى شأن عربي؟ وبالتالي، ما هي علاقة ذلك بمعوقات العمل العربي المشترك، والتراجع عن مشروع التكامل الاقتصادي، وتجميد معاهدة الدفاع العربي المشترك، والتنكر لميثاق الأمن القومي العربي الجماعي؟

في هذا السياق، أمام العمل العربي المشترك مهمتان رئيستان لا تنفصلان . الأولى هي تصحيح المسار السياسي الداخلي لمعظم البلدان العربية، انطلاقاً من التسليم بالقول المأثور “العقل السليم في الجسم السليم” . وعلى هذا الأساس، فإن شرط نجاح العمل العربي المشترك هو أن يتحقق بين أجزاء سليمة، تتكامل في علاقتها، ولا تتماثل . والثانية، هي البناء بصيغة التراكم أحياناً، والوثبات النوعية في أحيان أخرى نحو تحقيق المشروع الوحدوي العربي .

إن أية صياغة عملية باتجاه تعضيد العمل العربي المشترك، ينبغي أن تنطلق من الاعتراف بالواقع القائم، لا بتجاوزه، والعمل من خلاله على تحسين صورة المستقبل . وهذا الواقع يشير إلى أن الكيانات القطرية العربية أصبحت أمراً متحققاً لا يمكن إلغاؤه والتنكر له، فلقد ترسخت هذه الكيانات لأكثر من نصف قرن وأصبحت لها ركائزها الثقافية والفكرية والنفسية .

ولهذا فإن العمل العربي، في بنيتيه الرسمية والشعبية، إذا ما أريد له أن يتجه إلى الأعلى، فإن عليه في الوقت الذي يلتزم فيه برؤى وثوابت قومية، أن يأخذ في الاعتبار ما تجذر على الأرض من اعتبارات وطنية محلية، معمماً ثقافة جديدة وعميقة خلاصتها أن العمل العربي المشترك ليس تعارضاً مع الولاء والإخلاص للتراب والانتماء الوطني، بل إنقاذ وترسيخ لهما، حيث يضع الجزء في مكانه الصحيح من الكل، وحيث يستطيع القطر العربي الواحد، أياً كان موقعه على الخريطة السياسية والجغرافية، أن يكون فاعلاً ومؤثراً ضمن مجموعة أقطار عربية فاعلة ومؤثرة . ومن دون ذلك تبقى جميع الأجزاء العربية مريضة ومشلولة، وتستمر حالة التخلف الراهنة من دون معالجة، وتغدو كل محاولات الخروج من مأزق التخلف الراهن عبثاً لا طائل من ورائه .

إن خيار التضامن العربي، والتكامل الاقتصادي والسياسي والثقافي بين الأقطار العربية هو وحده الطريق لكي نكون جزءاً فاعلاً في عالم فوار يتحرك من حولنا بسرعة، وفي ظل وضع دولي يتجه بثبات وقوة نحو العولمة وصناعة تكتلات سياسية واقتصادية كبرى، وهو وحده سبيلنا لمواجهة الأخطار المحدقة بالأمن والوجود العربيين من كل مكان .

فلا يعقل أبداً أن تتجه الأقطار العربية إلى عضوية منظمات دولية، أياً كان شأنها، وأن تغلب هذه العضوية على مصالحها وعلاقاتها العربية وأمنها المشترك . وإذا كان علينا أن نلتحق بالمنظمات الكونية، فإن من البديهي قبل الإيفاء بالشروط والمتطلبات التي يفترض منا أن نؤديها ثمناً لنيل العضوية في هذه المنظمات، أن يجري التنسيق والتخطيط وضمان المصالح المشتركة بين العرب أنفسهم أولاً، وقبل أن يلتحقوا بمنظومات الكوكبة . لكن ذلك لا يعني في كل الحالات، أن ينتج عن التنسيق بين العرب، إلغاء لأحد منهم أو مصادرة لحق أو لمصالح وطنية لأي من الأقطار . المطلوب هو التسامي فوق المصالح الفردية والأنانية، والعمل على ما يعزز ويقوي جميع الأجزاء من خلال وضع الجزء في مكانه الصحيح من الكل .

ومن جهة أخرى، ينبغي التنبه إلى أن أحد أسباب الخلل في العلاقات العربية هو أن المطالب الرئيسة للشعوب قد جرى إما تجاهلها عن عمد من قبل الحكام أو الالتفاف عليها، أو أن بعضها قد جرى تبنيه في صورة منفصلة، فجاءت النتائج غريبة ومشوهة وزائفة . كانت المطالب القومية تأتي دائماً أحادية ومبتسرة، فمرة كان مطلب الاستقلال القومي إبان الاستعمار التقليدي مع غياب كامل لمطلب الوحدة والحرية والعدل الاجتماعي، وحين تحقق هذا المطلب تكشف لنا خواؤه، حين وجدنا التجزئة وغياب الحريات والحقوق وسيادة حالة التخلف والفقر واقفة كسيوف مسلطة فوق رؤوسنا . وحين تحققت الوحدة أو الاتحادات، في حالات نادرة جداً، رأينا أنها كانت على حساب كثير من المبادئ والمستحقات . وتأتي الآن شعارات الديمقراطية والعولمة لتلحقنا أشباحاً تابعين في أسواق النخاسة العالمية، دونما زاد أو قوة أو قرار أو حتى موقف .

ولا شك في أن الضبابية في الرؤية وعدم القدرة على الربط بين الأهداف، وتغليب بعض الأولويات على حساب أولويات أخرى لا تقل أهمية ووجاهة، قد ألحق ضرراً كبيراً بمشروع العمل العربي المشترك وقضية الوحدة، مؤدياً إلى تعثره وعجزه وتراجعه . إن صياغة مشروعات المستقبل العربية، وبضمنها العلاقات بين العرب أنفسهم ينبغي أن تركز على مختلف الأهداف التي تمكن من تجاوز أخطاء التعاقب والانفصال، وأن تؤكد على أهمية التلازم والتلاحم بينها .

إن تبني سياسات داخلية مختلفة ومتباينة بين الأنظمة العربية، وتحديد أولويات استراتيجية تبدو متعارضة بين مصالح أقطارها قد عكس نفسه في تعميق شقة الخلافات وإثارة النعرات والتطاحن، ولذلك وجد بعض المفكرين العرب أن نقطة البداية في إصلاح النظام العربي هي أن يتجه إلى ما ينفع الناس، فذلك وحده الذي “يمكث في الأرض”، بحيث يصبح الإيمان بالوحدة ليس مجرد توق معنوي إلى تاريخ وثقافة وتواصل، بل ضرورة حضارية للعرب، إذا رغبوا في أن يأخذوا مكانهم بجدارة في مسيرة التطور الإنساني الصاعدة .

إن جملة من التغييرات الجوهرية مطلوب إحداثها بشكل ملح في العلاقات العربية – العربية، يأتي في المقدمة منها إنجاز الإصلاح السياسي داخل الأقطار العربية، تجنباً للأعاصير والبراكين، وإيجاد علاقة مستديمة، قادرة على الصمود، وغير خاضعة للتقلبات السياسية المحلية ولا لهوى الحكام، تأخذ في الاعتبار مجموعة من العناصر، أهمها التعادل والتكافؤ والتبادلية والمصالح المشتركة لشعوب هذه المنطقة .

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

19 + 8 =


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.

د.يوسف مكي