لماذا قلبت الإدارة الأمريكية ظهر المجن لأكراد تركيا؟..

0 241

في الحديث السابق، قدمنا قراءة مختصرة عن تطور العلاقات الأمريكية- التركية، وبشكل خاص منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وأشرنا إلى أن هذه العلاقات بلغت خلال النصف قرن المنصرم، الذي شهد استعار الحرب الباردة، مستوى استراتيجيا. لقد كانت تركيا، بالنسبة للإدارات الأمريكية المختلفة، حليفا رئيسيا لا غنى عنه، بالمنطقة المتعارف عليها في الجغرافيا السياسية الغربية، بالشرق الأوسط. ولم يتغير واقع الحال، إلا بعد انتهاء الحرب الباردة وتفكك الإتحاد السوفيتي. وبدقة أكثر، كان احتلال العراق عام 2003، والموقف التركي منه، قد أدى إلى حدوث فتور في علاقة الدولتين الحليفتين، تحول لاحقا إلى صراع خفي بين الإدارتين الأمريكية والتركية، ما لبث أن عبر عن نفسه بوضوح في جملة من الأفعال وردود الأفعال بين الطرفين.

 

وقد ناقشنا جملة الأسباب التي أدت إلى اتخاذ الإدارة الأمريكية الحالية موقفا مشجعا لحزب العمال الكردستاني للتحشد فوق أراضي شمال العراق، والإنطلاق منها للقيام بهجمات عسكرية ضد المواقع التركية. ووعدنا أن نكرس هذا الحديث لمناقشة الأسباب التي جعلت إدارة الرئيس بوش تقوم بانقلاب معاكس في موقفها، وتتجه في الأيام الأخيرة بقوة لمساندة قرار تركيا باجتياح الشمال العراقي، والتنسيق معها، في منع الأكراد من التواجد في المناطق العراقية الكردية.

 

هناك في اعتقادنا جملة من الأسباب الدولية والإقليمية والمحلية، ربما أدت مجتمعة إلى حدوث الانقلاب في موقف إدارة الرئيس الأمريكي جورج بوش، من مساند لعمليات الإرهاب التي يمارسها حزب العمال الكردستاني، إلى معارض بقوة لتلك العمليات. يمكن تلخيصها في ثلاثة أسباب رئيسية، هي المتغيرات في الساحة العالمية، وبروز نذر بانتهاء حقبة الأحادية القطبية في السياسة الدولية. وإقليميا، موقف أمريكا من النشاط النووي الإيراني، وفشل المشروع الأمريكي في العراق، ومحليا، إسقاطات فشل السياسة الأمريكية في العالم على أوضاع إدارة بوش داخل أمريكا نفسها، وحصد الحزب الديمقراطي لأغلبية المقاعد في الكونجرس.

 

ولعل الإشارة إلى خطاب الرئيس بوش قبل أسبوعين من هذا التاريخ، الذي أكد فيه قناعته بجدية طموحات إيران النووية العسكرية, معتبرا إن حيازة طهران سلاحا نوويا تعني حربا عالمية ثالثة. تشكل المدخل الصحيح لخشية بوش من المتغيرات في الميزان الدولي، والتي تتحقق على الأرض بوتائر متسارعة. هذه الخشية، من التغير في ميزان الصراع الدولي هي التي دفعت بالرئيس الأمريكي إلى الترهيب بإمكانية حدوث حرب عالمية ثالثة، إذا لم يتم التصدي لإيران الآن. وكانت صيحته لقادة العالم: “إذا أردتم ان تتفادوا حربا عالمية ثالثة عليكم أن تحاولوا منع الإيرانيين من الحصول على المعرفة الضرورية لصنع سلاح نووي”.

 

قراءة هذا التصريح، ينبغي أن تعالج في إطار أشمل وأوسع، فلا يوجد عاقل يمكن أن يصدق أن دوافع هذا التصريح هي أنشطة إيران النووية. فالعالم بأسره يعلم أن إيران، بافتراض أنها تطمح فعلا لامتلاك السلاح النووي، لا تزال بعيدة عن أهدافها، وأن أمامها مشوارا طويلا لتحقيق ذلك. إضافة إلى ذلك فإن كل الأطراف الدولية المؤثرة، كما أثبتت ذلك مناقشات مجلس الأمن الدولي، تجمع على أهمية حرمان إيران من حيازة هذا النوع من الأسلحة. وإذن فرسالة بوش ليست معنية بالأنشطة النووية الإيرانية، بقدر ما هي معنية بتحالفات إيران الدولية، وبشكل أكثر تحديدا بالدور الروسي والصيني في الساحة الدولية.

 

كان الرئيس الروسي بوتين متنبها جدا لمغزى تصريح الرئيس الأمريكي، ولم يغب عنه مضمون تلك الرسالة. وكان رده فوريا وسريعا على هذا التصريح, مستغلا قضية الدرع الصاروخي في شرق أوروبا، مذكرا الرئيس الأمريكي بأن “أزمة الدرع الصاروخي الأمريكي في شرق أوروبا تشبه، إلى حد كبير، أزمة صواريخ كََوبا عام 1962م”. إن خلاصة رسالة بوتين هي أن الإدارة الأمريكية، بنهجها التوسعي في أوربا الشرقية، هي التي تسوق العالم نحو حرب عالمية ثالثة. مذكرا بموقف الرئيس الأمريكي، جون كنيدي عام 1962م، حين هدد الإتحاد السوفييتي بإشعال حرب عالمية ثالثة، إذا لم تسحب إدارة الرئيس الروسي خروتشوف صواريخها المحملة بالرؤوس النووية من كوبا.

 

ولا شك أن للمخاوف الأمريكية من تغير ميزان الصراع في الساحة الدولية لها ما يبررها. فقد شهدت الأيام الأخيرة، إعلان روسيا، تحت قيادة بوتين، استئناف طلعات قاذفاتها الإستراتيجية, بعد أن كان يلتسن قد أوقفها كبادرة حسن النية من قبله تجاه الولايات المتحدة الأمريكية. وكان اللافت في الأمر أن الطلعات الجوية الروسية بدأت بالوقت الذي كانت تجري فيه مناورات عسكرية مشتركة للدول الأعضاء في منظمة شنغهاي للتعاون التي تضم روسيا والصين وكازاخستان وطاجيكستان وأوزباكستان وقرقيزيا. وكان الأكثر إثارة واستفزازا في هذه المناورات، بالنسبة لإدارة الرئيس بوش، هو رفض موسكو والصين طلبا أمريكيا بحضور مراقبين عسكريين أمريكيين، في الوقت الذي سمح فيه للرئيس الإيراني، احمدي نجاد بحضور تلك المناورات, ومنحت بلاده صفة المراقب فيها.

 

من جهة أخرى، يبدو أن هناك عودة سريعة لسباق التسلح، فقد أعلنت روسيا مؤخرا نشر أسلحتها الإستراتيجية فوق القارة الأوروبية، وإنتاج صواريخ وطائرات بتقنيات عالية، ومتطورة. وكانت الصين قد أعلنت فجأة، ومن دون سابق توقع إطلاق صاروخ نسفت به قمرا صناعيا لها في الفضاء، وأرسلت مركبة غير مأهولة إلى القمر، لعلها أرادت من خلالها أن ترسل رسالة مضمونها بأنها دخلت سباق التسلح، دون عودة، مع الولايات المتحدة الأمريكية والحلف الأطلسي، وأن مرحلة جديدة في العلاقات الدولية في طريقها إلى الإنبثاق..

 

إن عودة الحرب الباردة، أو ما يقترب منها، تقتضي في أبسط أبجدياتها البحث عن حلفاء إقليميين أقوياء. وكانت إيران الشاه، وتركيا، وباكستان والكيان الصهيوني، من حلفاء أمريكا الأقوياء في المنطقة. ولما كانت هناك استحالة أن تشن حروب مباشرة، في أية نزاعات محتملة، بين قطبي الصراع الرئيسيين، أمريكا وروسيا، كون ذلك يعني دمارا محققا للبشرية، فقد كانت الحروب تتم بالوكالة، وكان الحلفاء، في الإتجاهين يقومون بالحروب وكالة.

 

ومن هنا تأتي أهمية استرضاء الحكومة التركية، والعمل على إعادتها حليفا قويا واستراتيجيا للإدارة الأمريكية في صراعها البارد المرتقب مع كل من روسيا والصين.

 

وإذا ما وضعنا في الحسبان موقف إيران الداعم لتركيا، في صراعها مع حزب العمال الكردستاني، فإن ذلك يضيف أسبابا أخرى للانقلاب الأمريكي الأخير تجاه تركيا. لقد وعدت إيران، على لسان وزير خارجيتها، منوشهر متكي، في مؤتمر صحفي مشترك مع نظيره التركي في طهران إن بلاده، ستقدم العون لأنقرة في مواجهة حزب العمال الكردستاني. ووصف وزير الخارجية الإيراني حزب العمال الكردي بأنه منظمة إرهابية. وأدان “الممارسات الإرهابية” لهذا الحزب، مشيرا إلى أنها تبرز الحاجة إلى محاربة “الإرهابيين”. ومن جهة أخرى، ردت الحكومة التركية التحية بأحسن منها، فأعرب وزير الخارجية التركي، بابا جان عن امتنانه لإيران لمساعدتها في محاربة حزب العمال الكردستاني، وقال إن الجانبين تحدثا بشأن استمرار التعاون المشترك فيما بينهما دون أن يذكر تفاصيل أخرى.

 

لقد اقتضت هذه التطورات من الإدارة الأمريكية سرعة في الحركة، لاحتواء الموقف التركي، وكسبه إلى جانبها، وفرض عزلة دولية على إيران، من خلال الوقوف في جبهة واحدة مع تركيا ضد أنشطة حزب العمال الكردستاني. وكان هذا الانقلاب هو أهم أدوات الاحتواء السلمي للموقف التركي من إيران.

 

وفي هذا السياق أيضا، ينبغي أن لا يغيب عن الذهن ما تنوء به الإدارة الأمريكية من أعباء ومصاعب في العراق وأفغانستان والصومال ودول أمريكا اللاتينية وكوريا الشمالية وإيران ولبنان.

 

وإذا ما أعطينا أرجحية لحديث الصحفي الأمريكي الشهير، سيمورهيرش في مجلة «النيويوركر« مؤخرا والذي أبلغ فيه “أن مسئولين سابقين في وكالة المخابرات المركزية قد أخبراه بان جهاز السي. اي. ايه قام مؤخرا بتوسيع نطاق الوحدة المكلفة بالتخطيط للعمليات في ايران، وأنهم ينقلون الجميع إلى الوحدة المكلفة بإيران، وأنهم يأتون بالكثير من المحللين ويعيدون مراجعة كل شيء، بما يشبه خريف 2002، أي الأشهر التي سبقت غزو العراق، عندما أصبحت مجموعة العمليات في العراق هي الوحدة الأكثر أهمية في السي. اي. ايه”، وأن الضربة الأمريكية لإيران قادمة، وأن شهر يناير القادم هو موعد تنفيذها، فإن ذلك يعني أن الإدارة الأمريكية في مواجهة مع الزمن، من أجل تهيئة المسرح لتنفيذ عمليتها العسكرية ضد إيران، أيا كان شكل تلك العملية.

 

إن أي هجوم أمريكي على إيران يقتضي منح دور رئيسي لتركيا، وإعادة ترتيب الأوراق في العراق، بما في ذلك، إعادة صياغة خارطة التحالفات الجديدة داخله، وإيجاد معادل عراقي سني مدعوم من تركيا والدول المجاورة، للوجود الشيعي المدعوم من إيران. وقد بدأت ملامح ذلك تتضح في قيام مجالس العشائر، الممثلة للزعامات التقليدية القديمة، في عدد من المحافظات العراقية.

 

ومحليا، ترتفع الأصوات داخل الولايات المتحدة الأمريكية، بالكونجرس ومجلس الشيوخ، والحزب الديمقراطي، وحتى ضمن قيادات الحزب الجمهوري، مطالبة بترصين علاقات بلادهم مع العالم، واعتماد سياسة الحوار. إن فريقا كبيرا من صناع القرار الأمريكي يرون أن فرض السياسات الأمريكية بالقوة، وعن طريق المغامرات العسكرية، من قبل إدارة بوش قد أدى إلى تضاعف حالة الكراهية لأمريكا في العالم، ويطالبون بتغيير هذه الصورة، بانتهاج سياسات بديلة وواقعية.

 

هذه الأسباب مجتمعة هي التي تفسر لماذا قلبت الإدارة الأمريكية مؤخرا ظهر المجن للحلفاء الأكراد في شمال العراق، ووقفت بالضد من العمليات الإرهابية لحزب العمال الكردستاني..

 

yousifsite2020@gmail.com

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

1 × 5 =


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.

د.يوسف مكي