لماذا فشل عصر التنوير العربي؟
في الأحاديث الثلاثة الماضية بدأنا مشروع مناقشة علاقة الدين والديموقراطية، وأشرنا إلى أن الدين له علاقة بما هو ثابت، وغير نسبي، أما الديموقراطية، فعلى الرغم من أنها تقترب في جوهرها من المبادئ العالمية التي تبشر بها الأديان السماوية، فإنها في تطبيقاتها خاضعة للاعتبارات الظرفية. وعلى هذا الأساس، فإن الدين، لا يتعامل مع التفاصيل السياسية اليومية، ولا بطريقة الحكم، وبنيته وهياكله. فتلك الأمور خاضعة لاجتهادات البشر، بما لا يتنافى مع روح الأديان. وتناولنا بشيء من التفصيل، الديموقراطية كمفهوم خاضع للتطور، والتماهي مع قوانين الحركة، وتناولناه أيضا كإجراءات وتطبيقات عملية. وأوضحنا أن العلاقات التعاقدية وقيام دولة المؤسسات، هما إحدى نتائج عصر الأنوار الأوروبية، الذي بدأ حركة إبداع فكري وفني وفلسفي، ثم تحول إلى فعل سياسي بعد انتصار الثورتين الإنجليزية والفرنسية، واستقلال أمريكا الشمالية، وبروز الأنظمة الدستورية.
كانت هذه الأحداث الدراماتيكية قد مثلت انتقالا نوعيا في تاريخ البشرية، بلغت أصداؤها كل ركن من أركان المعمورة، ومن ضمنها البلدان العربية، فكان من نتائجها انبثاق حركة التنوير العربية التي عمت مصر والعراق وبلاد الشام، وأجزاء من المغرب العربي، بشكل خاص، لكنها تركت بجدارة بصماتها بعموم الساحات العربية. لكن مسيرة التنوير هذه لم تستطع مواصلة سيرها، وتعثرت وهي لما تزل في بداية الرحلة.
وقد قادنا ذلك إلى طرح سؤال منهجي، ومركزي هام. لماذا حقق عصر الأنوار الأوروبي أهدافه، واستمر يتقدم بثبات لأكثر من قرنين من الزمن، جاعلا من القارة الأوروبية مركزا للعالم، في حين فشل عصر التنوير العربي. بمعنى آخر، لماذا نجح مشروع النهضة الغربي، وفشلنا نحن؟ سؤال يضغط علينا بإلحاح، علنا نجد في الإجابة عليه بعض المفاتيح للخروج من المأزق الراهن، وفتح بوابات التفاؤل والرجاء.
والواقع أن هذا السؤال قد ظل لأكثر من قرن من الزمن محور مناقشات عميقة أحيانا، ومماحكات صورية في أحيان أخر. ولعله كان المحرض لبروز مشاريع فكرية عديدة أخذت مكانها خلال العقود الثلاثة المنصرمة. وقائمة الذين كتبوا في هذا الموضوع، من العرب وغيرهم، من المفكرين والمهتمين واسعة وكبيرة، ليس بالإمكان تناولها في هذه العجالة.
كان برتراند بادي أستاذ علم الاجتماع الفرنسي قد أصدر كتابا بعنوان (الدولتان: السلطة والمجتمع في الغرب وبلاد الإسلام)، طرح فيه ذات السؤال، لماذا تطورت الدولة في أوروبا من واقعها القديم المعتمد على الحكم المطلق إلى دولة الحداثة السياسية، دولة القانون والمؤسسات التي تستمد شرعيتها من الدستور وتمثل إرادة الشعب؟ ولماذا لم يتطور مفهوم الدولة ومؤسساتها في العالم الثالث، ومن ضمنه الوطن العربي؟ ولماذا فشلت محاولات عصر التنوير العربي في نقل الحداثة السياسية الغربية إلى هذه المنطقة؟
ويجيب الكاتب على هذه الأسئلة، مشيرا إلى أن دولة المؤسسات قامت في أوروبا نتيجة لعملية تاريخية أسفرت عن بروز مجال جديد في الحياة السياسية، مجال خاص بالممارسة في هذا الحقل، أصبح لاحقا منافسا عنيدا للكنيسة، وقدم نفسه بديلا عنها في المجال السياسي. وكان من نتائج ذلك، بروز نظرية التعاقد، التي بشر بها جان جاك روسو. أما في العالم الثالث، وبخاصة في البلاد الإسلامية، والأقطار العربية فإنها لم تشهد هذه العملية التاريخية، ولم تعرف صراعا سياسيا واضحا بين المؤسسة الدينية، وبين النخب الاجتماعية، بسبب عدم وجود مؤسسة دينية تملك القوة التي كانت تحظى بها الكنيسة الأوروبية.
ويستنتج الكاتب من ذلك، أن النخب العصرية العربية فشلت في استيراد الحداثة في بلدانها بسبب استمرار المجال السياسي في هذه البلدان مراوحا في مكانه الذي كان عليه في القرون الوسطى. إن ذلك هو ما يفسر، من وجهة نظر برتراند بادي، تركز الحركات الاعتراضية التي يشهدها العالم العربي والإسلامي في الحركات المتطرفة التي تتجه بمعارضتها ليس إلى السلطات السياسية وحدها فحسب، ولكن أيضا إلى النخب العصرية وحكوماتها وبرلماناتها, لقد فشلت تلك النخب، كما فشلت أيديولوجياتها المنقولة والمستوردة للحداثة السياسية الغربية، ولم يبق أمام الجمهور إلا موروثهم المتمثل في الدين، ومن هنا كانت “الصحوة الإسلامية” المعاصرة.
قراءة هذا التحليل، لا تشي بجديد. فقد اعتاد معظم الباحثين الغربيين، تحميل الضحية مسؤولية تعثره عن مواكبة ركب النهضة. ولم تخرج نظريات التقابل الغربية عن هذا السياق، فهي في غالبيتها، بدلا من اللجوء إلى التحليل والتفكيك تقفز إلى النتائج دون المرور بالمقدمات. فتكون أسباب تخلف شعوب العالم الثالث عند البعض، عوامل عرقية أحيانا، وجغرافية أو دينية في أحيان أخرى، مجسدة بذلك موقفا عنصريا. فتكون النتيجة الخروج بتحديد خصائص معينة يميز عن طريقها بين المجتمع الغربي المتمدن، ومجتمع العالم الثالث المتخلف. ويكتفي بهذا التوصيف، فينقسم المجتمع الإنساني تبعا لذلك إلى نوعين: مجتمع غربي متمدن، ومجتمع تقليدي يقوم على أساس الاعتقاد بتقاليد اجتماعية موروثة، تعتمد على السحر والشعوذة والدجل. المجتمع المتقدم وفقا لهذا التوصيف، هو بطبيعته مجتمع قانوني قائم على الخضوع لقوانين ودساتير مدنية محددة، يتفق عليها المجتمع من خلال مؤسساته. وهنا يأتي التمييز بين المجتمع في العالم الثالث، البدائي، البدوي، الريفي، الساكن، التقليدي، الذي يسوده الحكم المطلق، ويقابله مجتمع مدني، صناعي، متحضر، متحرك، عقلاني، متمدن يمارس فيه حكم المؤسسات، ويفصل فيه، بشكل حاسم، بين الدين والدولة.
وكان في مقدمة هؤلاء الباحثين، السير هنري ماين الذي قسم المجتمعات الحديثة إلى نوعين، ساكنة وتعاقدية. وقال إن التطور يعني الانتقال من الساكنة إلى التعاقدية، ومن مجتمع تقليدي جامد إلى مجتمع مدني عقلاني تربط بين أبنائه علاقات تعاقدية قائمة على اعتبارات خاصة. بينما قال مفكر آخر، هو أميل دورخايم بوجود نوعين من العلاقات الاجتماعية: نوع ميكانيكي وهو المجتمع التقليدي، حيث يتبادل فيه الناس عواطف عامة، ومجتمع أصلي، حيث يجري فيه تقسيم للعمل تحكمه المصالح لا العواطف. وقد خالف دروخايم أقرانه في وصف المجتمع التقليدي بالميكانيكية، بينما تركز معظم النظريات الغربية في هذا المجال على وصف هذا المجتمع بالسكون. لقد قالت معظم النظريات الغربية التي اهتمت بالتمييز بين المجتمع القديم (التقليدي) والمجتمع الحديث (المتقدم) بالتقابل. فوفقا لمعظم هذه النظريات، نجد أن مجتمع المدينة يقابله مجتمع الريف أو البداوة، والمجتمع الصناعي يقابله المجتمع الزراعي، والمجتمع المتحضر، يقابله المجتمع البدائي، والمجتمع الديناميكي يقابله مجتمع ساكن، والمجتمع العقلاني يقابله مجتمع تقليدي، والحكم الديموقراطي يقابله الحكم الديكتاتوري.
ومن هنا فإن الصفات الإيجابية، وفقا لهذه التصنيفات، ارتبطت بحضارة الغرب، فهذه الحضارة هي وحدة المتحضرة، المتمدنة، الصناعية، الديناميكية، العقلانية، الديموقراطية. ولهذا فإنها مهيأة وحدها لكي تنقذ البشرية، وأن تنقلها إلى وضع أفضل، وفقا للمقاييس الأخلاقية والحضارية التي اصطنعها فلاسفة الغرب. ومن هنا أيضا قدمت هذه النظريات المبرر الأخلاقي للدول الغربية الصناعية، لتبدأ عصر الاستعمار، حين أوحت بأن خريطة التطور الإنساني إنما تبدأ من أوروبا، لنشر المدنية في ربوع العالم، وتجاوز المجتمعات التقليدية.
بالطبع هناك أسئلة كثيرة، في مواجهة هذه التنظيرات، طرح بعضها الدكتور محمد عابد الجابري، في كتابه: نقد العقل العربي: العقل السياسي العربي محددات وتجليات لعل أهمها السؤال عما كانت ستؤول إليه التحولات الأوروبية الحديثة، لو وجدت قوة خارجية تضايقها وتقمعها، كما ضايقت أوروبا التوسعية وقمعت عمليات التطور والتحديث في العالم العربي والإسلامي. كيف كان سيكون مسلسل التصنيع في أوروبا، وبالتالي مسلسل الصراعات الاجتماعية، بدون المواد الأولية والسوق الخارجية التي وفرها التوسع الاستعماري الذي شمل القارات الثلاث، وضمنها العالم العربي والإسلامي؟ وكيف سيكون حاضر العالم العربي اليوم لو أن أوروبا تركت تجربة محمد علي باشا في مصر تشق طريقها، لو لم تتدخل سياسيا واقتصاديا وعسكريا؟ كيف سيكون حال العرب اليوم لو لم تعمل أوروبا على غرس الكيان الصهيوني في القلب من الوطن العربي، ولو لم تعمل على إسقاط عدد من الأنظمة الوطنية، واحتلال عسكري مباشر، أحيانا، ومغلف بمعاهدات الوصاية والحماية في أحيان أخرى.
كل تلك الأسئلة وجيهة ومشروعة، من وجهة نظرنا، وفيها يكمن الوجه الآخر من الجواب، ليتضح جدل العلاقة بين الصعود الكاسح للرأسمالية الأوروبية، وبقاء حالة التردي العربية على ما هي عليه حتى يومنا هذا. فهل نطمح إلى المزيد من التفكيك والتحليل، في محاولة للخروج من حالة التداعي الراهنة؟ ذلك ما نعد بالحديث عنه في مناسبة أخرى بإذن الله.
yousifsite2020@gmail.com
اضف تعليق
اسمك بريدك الالكتروني
تعليقك:
تعليقات
* تعليق #1 (ارسل بواسطة محمد أحمد)
مختصر الكلام ، إشاعة الديمقراطية،تداول السلطة ضمن فترات يحددها الدستور، بناء المجتمع المدتي،وضع قانون مدني ، يلائم كافة أطياف المجتمع ، احترام حقوق الإنسان و صيانتها بغض النظر عن انتمائه ، سيادة القانون على الجميع بدون استثناء ،و أخيراً فصل الدين عن الدولة كما فعلت كل الدول العصرية لأن السياسة و الدين لا يتعايشان معاً مطلقاً .
* تعليق #2 (ارسل بواسطة مسلمة)
لن يكون هناك عصر تنوير اسلامي عربي الا بعودة الى كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم